التّفسير
البحار وذخائرها الثمينة:
استمرارا لشرح النعم الإلهيّة يأتي الحديث هنا عن البحار ،ولكن ليس عن خصوصيات البحار بصورة عامّة ،بل عن كيفية خاصّة ومقاطع معيّنة منها تمثّل ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحقّ ،بالإضافة إلى ما فيها من النعم التي هي موضع استفادة البشرية .
يقول تعالى: ( مرج البحرين يلتقيان ) ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر: ( بينهما برزخ لا يبغيان ) .
مادّة ( مرج ) على وزن ( فلج ) بمعنى الاختلاط ،أو إرسال الشيء وتركه ،وهنا وردت بمعنى إرسال الشيء ووضعه جنباً إلى جنب بقرينة الآية: ( بينهما برزخ لا يبغيان ) .
المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح ،وذلك بالاستدلال بقوله تعالى: ( وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح اُجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً ){[4917]} .
والتساؤل هنا عن مكان هذين البحرين اللذين لا يمتزجان مع بعضهما ،وما هو البرزخ الموجود بينهما ؟هناك كلام كثير بين المفسّرين حول هذه المسألة ،إلاّ أنّ بعض التّفسيرات تدلّل على عدم إطّلاعهم على أوضاع البحار في ذلك الزمان ،منها أنّهم ذكروا أنّ المقصود من البحرين هما ( بحر فارس وبحر الروم ) في الوقت الذي نعلم أنّ ماء هذين البحرين مالح ،ولا يوجد بينهما برزخ .
أو قولهم: إنّ المقصود بذلك هو بحر السماء وبحر الأرض ،والذي يكون الأوّل عذباً والثاني مالحاً ،في الوقت الذي نعلم أيضاً بعدم وجود بحر في السماء باستثناء الغيوم والبخار التي يتبخّر من المحيطات .
وقالوا أيضاً: إنّ المقصود من البحر العذب هو المياه التي تحت الأرض والتي لا تختلط مع مياه البحار ،والبرزخ الموجود بينهما هي جدران هذه الآبار .
في الوقت الذي نعلم أيضاً أنّ الماء الموجود تحت الأرض أقلّ من أن يشكل بحراً .
نعم إنّ جزئيات الماء المخفية بين طبقات التراب والرمل تتجمّع تدريجيّاً ،وتخرج عندما يحفر بئر في نقطة معيّنة .وهي كميّة محدودة بالإضافة إلى عدم وجود اللؤلؤ والمرجان فيها .
إذاً ما هو المقصود من هذين البحرين ؟
لقد أشرنا سابقاً إلى هذه الحقيقة في تفسير سورة الفرقان ،وهي أنّ الأنهار العظيمة ذات المياه العذبة عندما تصبّ في البحار والمحيطات فإنّها تشكّل بحراً من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف ،والعجيب أنّ هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدّة طويلة بسبب اختلاف درجة الكثافة .وتلاحظ هذه المناظر بوضوح عند السفر بالطائرة في المناطق التي تكون فيها هذه الظاهرة ،حيث المياه العذبة تمثّل بحراً منفصلا في داخل البحر المالح ومنفصلة عنها ،وعندما تمتزج أطراف هذين البحرين فإنّ المياه العذبة الجديدة تأخذ مكانها بحيث أنّ هذين البحرين منفصلان على الدوام بشكل ملفت للنظر .
والظريف هنا ما يحصل في حالة ( مدّ البحر ) فبارتفاع سطح المحيط إلى الأعلى ،فإنّ المياه العذبة ترجع إلى الداخل دون أن تختلط مع المياه المالحةباستثناء سنوات الجدب التي تنعدم فيها الأمطار ويشحّ الماءوتغطّي قسماً من اليابسة ،لذلك فكثيراً ما تستثمر هذه الحالة بإيجاد أنهار وقنوات في المناطق الساحلية حيث تسقى بهذه الطريقة الكثير من الأراضي الزراعية .
إنّ هذه الأنهر توجد ببركة وحركة ( المدّ والجزر ) الساحليتين وتأثيرهما على مياه هذه الأنهار التي تمتلئ وتفرغ مرّتين في كلّ يوم بالماء العذب ،ممّا يتيح فرصة طيّبة لسقي مناطق واسعة من الأراضي الزراعية .
ويوجد تفسير رائع آخر لهذين البحرين ،حيث قالوا: إنّ المقصود منهما يحتمل أن يكون ظاهرة ( كلف استريم ) والذي سيأتي شرحها في آخر هذه الآيات إن شاء الله .
/خ25