وتعقيباً على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق ،يخاطب الجنّ والإنس مرّة أخرى بقوله: ( يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض ) للفرار من العقاب الإلهي ( فا نفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان ) أي بقوّة إلهية ،في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة .
وبهذه الصورة فإنّكم لن تستطيعوا أن تفرّوا من محكمة العدل الإلهي ،فحيثما تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحلّ حكومته تعالى ،ولا مناصّ لهذا المخلوق الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهيّة ؟كما قال الإمام علي ( عليه السلام ) في دعاء كميل بن زياد المربي للروح: ( ولا يمكن الفرار من حكومتك ) .
«مَعْشَرْ » في الأصل من ( عشر ) مأخوذ من عدد «عشرة » ،ولأنّ العدد عشرة عدد كامل ،فإنّ مصطلح ( معشر ) يقال: للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة .
«أقطار » جمع ( قُطْر ) بمعنى أطراف الشيء .
«تنفذوا » من مادّة ( نفوذ ) ،وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شيء ،والتعبير ( من أقطار ) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها .
وبالمناسبة فإنّ تقديم «الجنّ » هنا جاء لاستعدادهم الأنسب للعبور من السماوات ،وقد ورد اختلاف بين المفسّرين على أنّ الآية أعلاه هل تتحدّث عن القيامة ،أو أنّ حديثها عن عالم الدنيا ،أو كليهما ؟
ولأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث عن وقائع العالم الآخر ،فإنّ المتبادر إلى الذهن أنّ الآية تتحدّث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به العاصون في ذلك اليوم .
إلاّ أنّ البعض بلحاظ جملة: ( لا تنفذون إلاّ بسلطان ) اعتبرها إشارة إلى الرحلات الفضائية للإنسانية ،وقد ذكر القرآن شروطها من القدرة العلمية والصناعية .
ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود منها هو عالم الدنيا وعالم القيامة ،يعني أنّكم لن تتمكّنوا من النفوذ بدون قدرة الله في أقطار السماوات ليس في هذه الدنيا فحسب ،بل في عالم الآخرة أيضاً ،حيث وضعت في الدنيا وسيلة محدودة لاختباركم ،أمّا في الآخرة فلا توجد أيّة وسيلة لكم .
وفسّرها البعض تفسيراً رابعاً حيث قالوا: إنّ المقصود بالنفوذ هو النفوذ الفكري والعلمي في أقطار السماوات ،الذي يمكن للبشر إنجازه بواسطة القدرة الاستدلالية .
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل مناسب أكثر ،خاصّة وأنّ بعض الأخبار التي نقلت من المصادر الإسلامية تؤيّده ،ومن جملتها حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) حيث يقول:
«إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ،وذلك أن يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك ،فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة ،ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين ،فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادي مناد ؛( يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان ) فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة »{[4928]} .
كما أنّ الجمع بين التفاسير ممكن أيضاً .