ولتأكيد حضور الله سبحانه في كلّ مكان وعلمه بكلّ شيء ينتقل الحديث إلى مسألة «النجوى » حيث يقول سبحانه: ( ألم تر أنّ الله يعلم ما في السماوات ) .
بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ أنّ المقصود هو عموم الناس{[5143]} ،ومقدّمة لبيان مسألة النجوى .
ثمّ يضيف تعالى: ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ،ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أين ما كانوا ثمّ ينّبئهم بما عملوا يوم القيامة إنّ الله بكلّ شيء عليم ){[5144]} .
نلاحظ هنا عدّة نقاط تستحقّ الانتباه:
1«النجوى » و «النجاة » في الأصل بمعنى المكان المرتفع الذي انفصل عن أطرافه وجوانبه بسبب ارتفاعه ،ولأنّ الإنسان إذا أراد التكتم على حديثه يعتزل في مكان بعيد عن الآخرين ،أو بلحاظ أنّ المتحدّث بالنجوى يريد أن ينجي أسراره من الكشف ويبعدها عن تناول أسماع الآخرين .
2يرى البعض أنّ «النجوى » يجب أن تكون بين ثلاثة أشخاص أو أكثر ،وإذا كانت بين شخصين فيقال لها ( سرار ) على وزن ( سِتار ) إلاّ أنّ هذا خلاف ظاهر الآية ،لأنّ الجملة: ( ولا أدنى من ذلك ) تشير إلى أقلّ من ثلاثة أشخاصأي شخصينومن الطبيعي أنّه إذا تناجى شخصان فلابدّ من أن يكون شخص ثالث قريب منهما ،وإلاّ فلا ضرورة للنجوى .إلاّ أنّ ذلك لا يرتبط بما ذكرنا .
3والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ الآية أعلاه تحدّثت في البداية عن نجوى ثلاثة ،ومن ثمّ عن نجوى خمسة ،ولم يرد الكلام عن نجوى أربعة أشخاص والتي هي بين المرتبتين ( ثلاثة وخمسة ) ،وبالرغم من أنّ كلّ ذلك جاء من باب المثال ،إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكروا له وجوهاً مختلفة ،وأنسبها أنّ المقصود بذلك رعاية الفصاحة في الكلام وعدم التكرار ،لأنّه إذا قال تعالى ( كلّ ثلاثة أشخاص يتناجون فإنّ الله رابعهم ،وكلّ أربعة أشخاص يتناجون فإنّ الله خامسهم ) فإنّ العدد ( أربعة ) يتكرّر هنا ،وهذا بعيد عن البلاغة .وقال البعض: إنّ هذه الآيات نزلت حول مجموعة من المنافقين الذين كان عددهم نفس العدد المذكور .
4المقصود من أنّ «الله » رابعهم أو سادسهم هو أنّ الله عز وجل موجود حاضر وناظر في كلّ مكان وعالم بكلّ شيء ،وإلاّ فإنّ ذاته المقدّسة لا مكان لها ،ولا يوصف بالعدد أبداً ،ووحدانيّته أيضاً ليست وحدة عدديّة ،بل بمعنى أنّه لا شبيه له ،ولا نظير ولا مثيل .
5وجدير بالذكر أنّ الحديث في ذيل الآية يتجاوز النجوى ،حيث تؤكّد الآية أنّ الله مع الإنسان في كلّ مكان ،وسوف يُطلع الإنسان على أعماله يوم القيامة ..وتنتهي الآية بالإحاطة العلمية لله سبحانه ،كما ابتدأت بالإحاطة العلمية بالنسبة لكلّ شيء .
6نقل بعض المفسّرين أنّ سبب نزول الآية ،ما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ الآية نزلت حول ثلاثة أشخاص ،هم ( ربيعة وحبيب وصفوان ) كانوا يتحدّثون مع بعضهم ،وقال أحدهم للآخر: هل يعلم الله ما نقول ؟قال الثاني: قسم يعلمه وقسم لا يعلمه .وقال الثالث: إذا كان يعلم قسماً منه فإنّه يعلم جميعه ،فنزلت الآية وأعلنت أنّ الله تعالى حاضر في كلّ نجوى وفي كلّ مكان في الأرض وفي السماء ،كي يتّضح خطأ الغافلين عمي القلوب{[5145]} .
بحث
حضور الله سبحانه في كلّ نجوى:
تقدّم آنفاً أنّ الله تعالى ليس جسماً وليست له عوارض جسمانية ،ومن هنا فلا يمكن أن نتصوّر له زماناً أو مكاناً ،ولكن توهّم أن يوجد مكان لا يكون لله عز وجل فيه حاضراً وناظراً يستلزم القول بتحديده سبحانه .
وبتعبير آخر فإنّ لله سبحانه إحاطة علمية بكلّ شيء في الوقت الذي لا يكون له مكان ،مضافاً إلى أنّ ملائكته حاضرون في كلّ مكان ،ويسمعون كلّ الأقوال والأعمال ويسجّلونها .
لذا نقرأ في حديث لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «إنّما أراد بذلك استيلاء أُمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه ،وإن فعلهم فعله »{[5146]} .
وطبيعي أنّ هذا هو بعد من أبعاد الموضوع ،وأمّا البعد الآخر فيطرح فيه حضور ذات الله عز وجل ،كما نقرأ في حديث آخر هو أنّ أحد كبار علماء النصارى سأل عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ): أين الله ؟قال ( عليه السلام ): هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ،ومحيط بنا ومعنا ،وهو قوله: ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ){[5147]} .
وفي الحديث المعروف ( الإهليلجة ) نقرأ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ): إنّ الله تعالى سمّي «السميع » بسبب أنّه لا يتناجى ثلاثة أشخاص إلاّ هو رابعهم ...ثمّ أضاف: يسمع دبيب النمل على الصفا وخفقان الطير في الهواء ،لا يخفى عليه خافية ،ولا شيء ممّا تدركه الأسماع والأبصار ،وما لا تدركه الأسماع والأبصار ،ما جلّ من ذلك وما دقّ وما صغر وما كبر{[5148]} .