سبب النّزول:
نقلت روايتان حول سبب نزول الآية الأولى أعلاه ،وكلّ واحدة منهما تخصّ قسماً من الآية الكريمة .
تقول الرواية الأولى: إنّ الآية نزلت في اليهود والمنافقين حيث كانوا يتناجون فيما بينهم بمعزل عن المؤمنين ،مع الإشارة إليهم بأعينهم غمزاً ،فلمّا رأى المؤمنون نجواهم ظنّوا أنّ سوءاً حصل لإخوانهم في السرايا فحزنوا لذلك ،وبثّوا حزنهم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأمرهم الرّسول ألاّ يتناجوا دون المسلمين ،فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فنزلت الآية أعلاه وهدّدتهم بشدّة{[5149]} .
أمّا الرواية الثانية فقد نقل في صحيح مسلم والبخاري وكثير من كتب التّفسير أنّ قسماً من اليهود جاءوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبدلا من قولهم له: السلام عليكم ،قالوا: السام عليك يا أبا القاسم ( والتي تعني الموت عليك أو الملالة والتعب ) فكان ردّ الرّسول عليهم ( وعليكم ) تقول عائشة: إنّي فهمت مرادهم وقلت: ( عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم ) .
فقال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): يا عائشة عليك بالرفق وإيّاك والعنف والفحش ،فقلت: ألا تسمعهم يقولون السام ؟فقال: أوما سمعت ما أقول عليكم فأنزل اللّه تعالى: ( إن جاؤوك حيّوك ....){[5150]} .
التّفسير:
النجوى من الشيطان:
البحث في هذه الآيات هو استمرار لأبحاث النجوى السابقة ،يقول سبحانه:{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثمّ يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول} .
ويستفاد من هذه الآية بصورة جليّة أنّ المنافقين واليهود قد نهوا من قبل، ومنعوا من النجوى التي تولّد سوء الظنّ عند الآخرين وتسبّب لهم القلق ،إلاّ أنّهم لم يعيروا أي اهتمام لمثل هذا التحذير ،والأدهى من ذلك أنّ نجواهم كانت تدور حول ارتكاب الذنوب ومخالفة أوامر الله ورسوله .
والفرق بين «الإثم » و «العدوان » و «معصية الرّسول » ،هو أنّ «الإثم » يشمل الذنوب التي لها جانب فردي كشرب الخمر ،أمّا «العدوان » فإنّها تعني التجاوز على حقوق الآخرين ،وأمّا «معصية الرّسول » فإنّها ترتبط بالأمور والتعليمات التي تصدر من شخص الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باعتباره رئيساً للدولة الإسلامية ،ويتصدّى لمصالح المجتمع الإسلامي .وبناءً على هذا فإنّهم يطرحون في نجواهم كلّ عمل مخالف ،وهو أعمّ من الأعمال التي تكون مرتبطة بهم أو بالآخرين أو الحكومة الإسلامية وشخص الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
والتعبير ب ( يعودون ) و ( يتناجون ) جاء هنا بصيغة مضارع ،حيث يوضّح لنا أنّ هذا العمل يتكرّر باستمرار ،وقصدهم به إزعاج المؤمنين . وعلى كلّ حال ،فالآية جاءت بعنوان إخبار غيبي يكشف مخالفاتهم ويظهر خطّهم المنحرف .
واستمرارا لهذا الحديث فإنّ القرآن الكريم يشير إلى مورد آخر من أعمال التجاوز والمخالفة للمنافقين واليهود ،حيث يقول تعالى: ( وإذا جاؤك حيّوك بما لم يحيّك به الله ) .
«حيّوك » من مادّة ( تحية ) مأخوذة في الأصل من الحياة بمعنى الدعاء بالسلام والحياة الأخرى ،والمقصود بالتحية الإلهية في هذه الآية هو: ( السلام عليكم ) أو ( سلام الله عليك ) والتي وردت نماذج منها في الآيات القرآنية عن الأنبياء وأصحاب الجنّة ،ومن جملتها قوله تعالى: ( سلام على المرسلين ){[5151]} .
وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ،ولم يكن قد سمح بها هي جملة: ( السام عليك ) .
ويحتمل أيضاً أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون: ( أنعم صباحاً ) و ( أنعم مساءًا ) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر .
هذا الأمر مع أنّه كان سائداً في الجاهلية ،إلاّ أنّ تحريمه غير ثابت ،وتفسير الآية أعلاه له بعيد .
ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقول عز وجل: ( ويقولون في أنفسهم لولا يعذّبنا الله بما نقول ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه .
وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم: ( حسبهم جهنّم يصلونها فبئس المصير ) .
والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ،بل يؤكّد القرآن على أنّه لولم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ،فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم .
ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحياناً وذلك للضرورة أو لبعض الميول ،لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئ عز وجل:{يا أيّها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول ،وتناجوا بالبرّ والتقوى واتّقوا الله الذي إليه تحشرون} .