التّفسير:
لو نزل القرآن على جبل:
تكملة للآيات السابقة التي كانت تهدف إلى تحريك النفوس والقلوب الإنسانية ،وخاصّة عن طريق التذكير بالنهاية التي يكون عليها الإنسان ،والمصير الذي ينتظره ،والذي يجدر أن يهيّئه في أبهى وأفضل صورة ..تأتي هذه الآيات المباركات التي هي آخر آيات سورة الحشر ،والتي تأخذ بنظر الاعتبار مجمل ما ورد من آيات هذه السورة ،لتوضّح حقيقة أخرى حول القرآن الكريم ،وهي: أنّ هذا الكتاب المبارك له تأثير عميق جدّاً حتّى على الجمادات ،حيث أنّه لو نزل على الجبال لهزّها وحرّكها وجعلها في وضع من الاضطراب المقترن بالخشوع ..إلاّ أنّهمع الأسفهذا الإنسان القاسي القلب يسمع آيات الله تتلى عليه ولا تتحرّك روحه ولا يخشع قلبه ،يقول سبحانه:{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلّهم يتفكّرون} .
فسّر الكثير من المفسّرين هذه الآيات بأنّها تشبيه ،وقالوا: إنّ الهدف من ذلك هو بيان أنّ هذه الآيات إذا نزلت على الجبال بكلّ صلابتها وقوّتها إذا كان لها عقل وشعوربدلا من نزولها على قلب الإنسانفإنها تهتزّ وتضطرب إلى درجة أنّها تتشقّق ،إلاّ أنّ قسماً من الناس ذوي القلوب القاسية والتي هي كالحجارة أو أشدّ قسوة لا يسمعون ولا يعون ولا يتأثّرون أدنى تأثير ،وجملة:{وتلك الأمثال نضربها للناس} اعتبرت دليلا وشاهداً على هذا الفهم .
وقد حملها البعض الآخر على ظاهرها وقالوا: إنّ كلّ الموجودات في هذا العالمومن جملتها الجباللها نوع من الإدراك والشعور الخاصّ بها ،وإذا نزلت هذه الآيات عليها فإنها ستتلاشى ،ودليل هذا ما ورد في الآية ( 74 ) من سورة البقرة في وصف جماعة من اليهود ،قال تعالى:{ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة ،وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية الله} .
والتعبير ب ( مثل ) يمكن أن يكون بمعنى هذا الوصف ،كما جاءت هذه الكلمة مراراً مجسّدة لنفس المعنى ،وبناءً على هذا ،فإنّ التعبير المذكور لا يتنافى مع هذا التّفسير .
والشيء الممكن ملاحظته هنا ،أنّه تعالى يقول في البداية: إنّ الجبال تخشع وتخضع للقرآن الكريم ،ويضيف أنّها تتشقّق ،إشارة إلى أنّ القرآن الكريم ينفذ تدريجيّاً فيها ،وبعد كلّ فترة تظهر عليها آثار جديدة من تأثيرات القرآن الكريم ،إلى حدّ تفقد فيه قدرتها واستطاعتها فتكون كالعاشق الواله الذي لا قرار له ثمّ تنصدع وتنشقّ{[5217]} .
/خ24