/م98
فيبدأ بالقول: ( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ) .
أي أنّكم ،على اختلاف ملامحكم وأذواقكم وأفكاركم والتباين الكبير في مختلف جوانب حياتكم ،قد خلقتم من فرد واحد ،وهذا دليل على منتهى عظمة الخالق وقدرته التي أوجدت من المثال الأوّل كل هذه الوجوه المتباينة .
وجدير بالملاحظة أنّ هذه الآية تعبر عن خلق الإِنسان بالإِنشاء ،والكلمة لغوياً تعني الإِيجاد والإِبداع مع التربية ،أي أنّ الله قد خلقكم وتعهد بتربيتكم ،ومن الواضح أنّ الخالق الذي يخلق شيئاً ثمّ يهمله لا يكون قد أبدى قدرة فائقة ،ولكنّه إِذا استمر في العناية بمخلوقاته وحمايتها ،ولم يغفل عن تربيتها لحظة واحدة ،عندئذ يكون قد أظهر حقّاً عظمته وسعة رحمته .
بهذه المناسبة ينبغي ألا نتوهّم من قراءة هذه الآية ،أنّ أُمَّنا الأُولى حواء قد خُلقت من آدم ( كما جاء في الفصل الثّاني من سفر التكوين من التّوراة ) ،ولكن آدم وحواء خلقا من تراب واحد ،وكلاهما من جنس واحد ونوع واحد ،لذلك قال: إِنّهما خلقا من نفس واحدة ،وقد بحثنا هذا الموضوع في بداية تفسير سورة النساء .
ثمّ يقول: إِنّ فريقاً من البشر «مستقر » وفريقاً آخر «مستودع » ( فمستقر ومستودع ) .
«المستقر » أصله من «القُر » ( بضم القاف ) بمعنى البرد ،ويقتضي السكون والتوقف عن الحركة ،فمعنى «مستقر » هو الثابت المكين .
و«مستودع » من «ودع » بمعنى ترك ،كما تستعمل بمعنى غير المستقر ،والوديعة هي التي يجب أن تترك عند من أودعت عنده لتعود إِلى صاحبها .
يتّضح من هذا الكلام أنّ الآية تعني أنّ الناس بعض «مستقر » أي ثابت ،وبعض «مستودع » أي غير ثابت ،أمّا المقصود من هذين التعبيرين ،فالكلام كثير بين المفسّرين ،وبعض التفاسير تبدو أقرب إِلى الآية كما أنّها لا تتعارض فيما بينها .
من هذه التفاسير القول بأنّ «مستقر » صفة الذين كمل خلقهم ودخلوا «مستقر الرحم » أم مستقر وجه الأرض ،و«المستودع » صفة الذين لم يكتمل خلقهم بعد وإنّما هو ما يزالون نطفاً في أصلاب آبائهم .
تفسير آخر يقول: إِنّ «مستقر » إِشارة إِلى روح الإِنسان الثابتة والمستقرة ،و«مستودع » إِشارة إِلى جسم الإِنسان الفاني غير الثابت .
وقد جاء في بعض الرّوايات تفسير معنوي بهذين التعبيرين ،وهو أنّ «مستقر » تعني الذين لهم إِيمان ثابت «ومستودع » تعني من لم يستقر إيمانه{[1257]} .
وثمّة احتمال أن يكون هذان التعبيران إِشارة إِلى الجزئين الأولين في تركيب نطفة الإِنسان ،إِنّ النطفةكما نعلمتتركب من جزئين: الأوّل هو «البويضة » من الأُنثى ،والثاني هو «الحُيمن » أو «المني » من الذكر ،أنّ البويضة في رحم الأُنثى تكان تكون مستقر ،ولكن حيمن الذكر حيوان حي يتحرك بسرعة نحوها ،وما أن يصل أوّل حيمن إِلى البويضة حتى يمتزج بها و«يخصبها » ويصد ( الحيامن ) الأُخرى ،ومن هذين الجزئين تتكون بذرة الإِنسان الأولى .
وفي ختام الآية يعود فيقول: ( قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) .
عند الرجوع إِلى كتب اللغة يتبيّن لنا أنّ «الفقه » ليس كل معرفة أو فهم ،بل هو التوصل إِلى علم غائب بعلم حاضر{[1258]} ،وبناء على ذلك فالهدف من التمعن في خلق الإِنسان واختلاف أشكاله وألوانه ،هو أن يتوصل المرء المدقق من معرفة الخلق إِلى معرفة الخالق .