التّفسير
الهدف من خلق العالم:
هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق ،وفيها إشارة معبّرة وصريحة إلى عظمة وقدرة البارئ جلّ شأنه في خلق السموات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق ،ثمّ تكمل الآية الأبحاث التي وردت في الآيات السابقة حول الثواب العظيم الذي أعدّه الله للمؤمنين المتّقين ،والعهود التي قطعها على نفسه لهم فيما يخصّ حلّ مشاكلهم المعقّدة .إذ من الطبيعي أنّ الذي أوجد هذا الخلق العظيم له القدرة على الوفاء بالعهود سواءً في هذا العالم أو العالم الآخر .
يقول تعالى أوّلا: ( الله الذي خلق سبع سموات ) .
( ومن الأرض مثلهنّ ) .
بمعنى أنّ الأرضين سبع كما السماوات سبع ،وهذه هي الآية الوحيدة التي تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم .
والآن لنر ما هو المقصود من السموات السبع والأرضين السبع ؟
مرّت أبحاث مطوّلة في هذا المجال في ذيل الآية ( 29 ) من سورة البقرة ،وفي ذيل الآية ( 12 ) من سورة فصّلت ،لذا نكتفي هنا بإشارة مقتضبة وهي:
إنّه من الممكن أن يكون المراد من عدد ( 7 ) هو الكثرة ،فكثيراً ما ورد هذا التعبير للإشارة إلى الكثرة في القرآن الكريم وغيره ،فنقول أحياناً للمبالغة لو أتيت بسبعة أبحر لما كفت .
وبناءً على هذا فسيكون المقصود بالسموات السبع والأرضين السبع هو الإشارة إلى العدد العظيم والهائل للكواكب السماوية والكواكب التي تشبه الأرض .
أمّا إذا اعتبرنا العدد سبعة هو لعدد السموات وعدد الأرضين ،فإنّ مفهوم هذه الآية مع الالتفات إلى الآية ( 6 ) من سورة الصافات التي تقول: ( إنّا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب ) سيكون شيئاً آخر ،وهو أنّ علم البشر ومعرفته مهما اتّسعت فهي محدودة ومتعلّقة بالسماء الأولى التي توجد وراءها ثوابت وسيّارات ستة هي عبارة عن العوالم الأخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة ولا ينالها إدراكنا الضيّق .
أمّا الأرضين السبع وما حولها ،فربّما تكون إشارة إلى طبقات الأرض المختلفة ،لأنّ الأرض تتكوّن من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميّاً .أو لعلّها تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسّم بها الأرض في السابق وحالياً .علماً أنّ هناك اختلافا بين التقسيم السابق والتقسيم الحالي ،فالتقسيم الحالي يقسّم الأرض إلى منطقتين: منطقة المنجمد الشمالي ،والمنجمد الجنوبي .ومنطقتين معتدلتين ،وأخريين حارتين ،ومنطقة استوائية .أمّا سابقاً فكان هناك تقسيم آخر لهذه المناطق السبع .
ويمكن أن يكون المراد هنا من العدد «سبعة » المستفاد من تعبير ( مثلهنّ ) هو الكثرة أيضاً التي أشير بها إلى الكرات الأرضية العديدة الموجودة في العصر الراهن ،حتّى قال بعض علماء الفلك: إنّ عدد الكرات المشابهة للأرض التي تدور حول الشموس يبلغ ثلاثة ملايين كرة كحدّ أدنى{[5331]} .
ونظراً لقلّة معلوماتنا حول ما وراء المنظومة الشمسية ،فإنّ تحديد عدد معيّن حول هذا الموضوع يبقى أمراً صعباً .ولكن على أي حال فقد أكّد علماء الفلك الآخرون أنّ هناك ملايين الملايين من الكواكب التي وضعت في ظروف تشبه ظروف الكرة الأرضية ،ضمن مجرّة المجموعة الشمسية ،وهي تمثّل مراكز للحياة والعيش .
وربّما ستكشف التطورات العلمية القادمة معلومات أوسع وأسرار أخرى حول تفسير مثل هذه الآيات .
ثمّ يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جلّ شأنه ( يتنزّل الأمر بينهنّ ) .
وواضح أنّ المراد من «الأمر » هنا هو الأمر التكويني لله تعالى في خصوص إدارة وتدبير هذا العالم الكبير ،فهو الهادي وهو المرشد وهو المبدع لهذا المسار الدقيق المنظّم ،والحقيقة أنّ هذه الآية تشبه الآية ( 4 ) من سورة السجدة حيث تقول: ( يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ) .
على أي حال فإنّ هذا العالم سيفنى ويتلاشى إذا ما رفعت عنه يد التدبير والهداية الإلهية لحظة واحدة .
وأخيراً يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول: ( لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماً ) .
كم هو تعبير لطيف ،إذ يعتبر الهدف من هذا الخلق العظيم هو تعريف الإنسان بصفات الله في علمه وقدرته ،وهما صفتان كافيتان لتربية الإنسان .
ومن ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ الله محيط بكلّ أسرار وجوده ،عالم بكلّ أعماله ما ظهر منها وما بطن .ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ وعد الله في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين ،كلّ ذلك غير قابل للتخلّف والتأخّر .
نعم ،إنّ هذا الخالق العظيم الذي له هذه «القدرة والعلم » والذي يدير هذا العالم بأجمعه ،لابدّ أنّ أحكامه على صعيد تنظيم علاقات البشر وقضايا الطلاق وحقوق النساء ستكون بمنتهى الدقّة والإتقان .
أوردنا بحثاً مفصّلا حول موضوع «الخلقة » في ذيل الآية ( 56 ) من سورة الذاريات .
الجدير بالذكر أنّ هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم تبيّن الهدف من خلق الإنسان أو الكون ،وقد تبدو مختلفة ،ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنّها ترجع إلى حقيقة واحدة .
1في الآية ( 56 ) من سورة الذاريات يعتبر «العبادة » هي الهدف من خلق الجنّ والإنس ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون ) .
2وفي الآية ( 7 ) من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف لخلق السموات والأرض: ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستّة أيّام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيّكم أحسن عملا ) .
3في الآية ( 119 ) من سورة هود يقول: إنّ الرحمة الإلهية هي الهدف «ولذلك خلقهم » .
4وفي الآية مورد البحث اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف« ...لتعلموا ..» .
إنّ تدقيقاً بسيطاً في هذه الآيات يرينا أنّ بعضها مقدّمة للبعض الآخر ،فالعلم والمعرفة مقدّمة للعبودية ،والعبادة هي الأخرى مقدّمة للامتحان وتكامل الإنسان ،وهذا مقدّمة للاستفادة من رحمة الله «فتأمّل !»