وبعد الإشارة إلى العبادة الليلية ،والإشارة الإجمالية إلى آثارها العميقة يذكّر القرآن بخمسة أوامر اُخرى مكملة لتلك فيقول: ( واذكر اسم ربّك ) .
والطبيعي أنّ المراد ليس ذكر الاسم فحسب ،بل التوجه إلى المعنى ،لأنّ الذكر اللفظي مقدمة للذكر القلبي ،والذكر القلبي يبعث على صفاء القلب والروح ويروي منهل المعرفة والتقوى في القلب .
المراد ب «الربّ » هو الإشارة إلى التوجه إلى النعم اللامتناهية وذلك عند الإتيان بذكره المقدس ،وأن يكون ذكره ملازماً مع التوجه إلى تربيته تعالى شأنه لنا ،ويبيّن بعض المفسّرين مراحل لذكر الربّ تعالى .
المرحلة الأولى: ذكره تعالى كما أشير إلى ذلك .
المرحلة الثّانية: الذكر القلبي لذاته المقدسة ،كما هو في الآية ( 205 ) من سورة الأعراف: ( واذكر ربّك في نفسك تضرعاً وخيفة ) .
ثمّ تبدأ المرحلة الثّالثة ،وفيها يتعدى الذكر مقام الرّبوبية ليصل إلى مقام مجموعة الصفات الجمالية والجلالية المجتمعة في اللّه تعالى ،كما هو في الآية ( 41 ) من سورة الأحزاب حيث يقول: ( يا أيّها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكراً كثيراً ) وعلى هذا الأساس يستمر هذا الذكر ليتكامل في مراحله ليوصل الذاكر نفسه إلى أوج الكمال{[5524]} .
ويقول في الأمر الثّاني: ( وتبتّل إليه تبتيلاً ){[5525]} .
«التبتل »: من ( البتل ) على وزن ( حتم ) ،وتعني في الأصل الانقطاع ،ولهذا سمّيت «مريم العذراء »( عليها السلام ) بالبتول ،لأنّها لم تتخذ لنفسها زوجاً وسمّيت الزّهراء( عليها السلام ) بالبتول لأنّها كانت أفضل نساء عصرها في السيرة والسلوك ،وكانت بالغة درجة الانقطاع إلى اللّه تعالى .
فالتبتل هو التوجه القلبي التام إلى اللّه تعالى ،والانقطاع عن غيره إليه تعالى ،والإتيان بالأعمال الخالصة للّه ،وكذا الخلوص له تعالى .
وما روي عن الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله: «لا رهبانية ،ولا تبتل في الإسلام »{[5526]} ،فهو إشارة لما هو حاصل في أوساط المسيحيين في تركهم للدنيا ،إذ أنّهم اعتزلوا الزواج لاعتزالهم الدنيا ،واعتزلوا بذلك الوظائف الإجتماعية ،وهذا ما لم يكن حاصلاً عند المسلمين ،إذ أن أحدهم يعيش في أوساط المجتمع الإنساني وهو في نفس الوقت متوجّه إلى اللّه تعالى .
وممّا روي عن أئمّة أهل البيت( عليهم السلام ) «التبتل رفع اليد إلى اللّه حال الصّلاة »{[5527]} والواضح أنّ هذا هو مظهر من مظاهر الإخلاص والانقطاع إلى اللّه .
على أيّ حال فإنّ ذلك الذكر للّه تعالى وهذا الإخلاص هما الثّروة العظيمة لأهل اللّه في مهامهم الثقيلة لهداية الخلق .