وفي القسم الثّالث والرّابع يقول: ( وشاهد ومشهود ) .
وقد تعرض المفسّرون للآية بمعان متباينة ،وصلت إلى ثلاثين معنى ،وأدناه أهم ما ذُكر منها:
1«الشاهد »: هو النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،بدلالة الآية ( 45 ) من سورة الأحزاب: ( يا أيّها النّبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ) .
و«المشهود »: هو يوم القيامة ،بدلالة الآية ( 103 ) من سورة هود: ( ذلك يوم مجموع له النّاس وذلك يوم مشهود ) .
2«الشاهد »: هو ما سيشهد على أعمال النّاس ،كأعضاء بدنه ،بدلالة الآية ( 24 ) من سورة النور: ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ) .و«المشهود »: هم النّاس وأعمالهم .
3«الشاهد »: هو يوم «الجمعة » ،الذي يشهد اجتماع في صلاة مهمّة ،و«المشهود »: هو يوم «عرفة » ،الذي يشهده زوّار بيت اللّه الحرام ،وهو ما روي عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والإمام الباقر( عليه السلام ) والإمام الصادق( عليه السلام ){[5896]} .
4«الشاهد »: عيد الأضحى .
و«المشهود »: يوم عرفة .
وروي أنّ رجلاً دخل مسجد رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فإذا رجل يحدث عن رسول اللّه ،قال: فسألته عن الشاهد والمشهود ،فقال: ( نعم ،الشاهد يوم الجمعة ،والمشهود يوم عرفة ) ،فجزته إلى آخر يحدث عن رسول اللّه ،فسألته عن ذلك فقال: ( أمّا الشاهد فيوم الجمعة ،وأمّا المشهود فيوم النحر ) ،فجزتهما إلى غلام كأنه وجه الدينار ،وهو يحدّث عن رسول اللّه ،فقلت أخبرني عن «وشاهد ومشهود » فقال: «نعم ،أمّا الشاهد فمحمّد ،وأمّا المشهود فيوم القيامة ،أمَا سمعت اللّه سبحانه يقول: ( يا أيّها النّبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ) ،وقال ( ذلك يوم مجموع له النّاس وذلك يوم مشهود ) ..فسألت عن الأول ،فقالوا: ابن عباس ،وسألت عن الثّاني ،فقالوا: ابن عمر ،وسألت عن الثّالث: فقالوا: الحسن بن علي( عليهما السلام ){[5897]}
5«الشاهد »: الليالي والأيّام ..و«المشهود »: بنو آدم ،حيث تشهد على أعمالهم ،بدلالة ما جاء في دعاء الإمام زين العابدين( عليه السلام ) الذي يقرأ كلّ صباح ومساء: «هذا يوم حادث جديد ،وهو علينا شاهد عتيد ،إن أحسنّا ودعنا بحمد ،وإن أسأنا فارقنا بذنب »{[5898]} .
6«الشاهد »: الملائكة ..و«المشهود »: القرآن .
7«الشاهد »: الحجر الأسود ..و«المشهود »: الحجاج الذين يأتون ويلمسونه .
8«الشاهد »: الخلق ..و«المشهود »: الحق .
9«الشاهد »: الأمة الإسلامية ..و«المشهود »: الأمم الأخرى ،بدلالة الآية ( 143 ) من سورة البقرة: ( لتكونوا شهداء على النّاس ) .
10«الشاهد »: النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ..و«المشهود »: سائر الأنبياء( عليهم السلام ) ،بدلالة الآية ( 41 ) من سورة النساء: ( وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) .
11«الشاهد »: النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ..و«المشهود »: أمير المؤمنين( عليه السلام ) .
وإذا ما أدخلنا الآية في سياق الآيات السابقة لها ،فسنصل إلى أنّ «الشاهد » هو كلّ من سيقوم بالشهادة يوم القيامة ،كشهادة: النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكلّ نبيّ على أمته ،الملائكة ،بالإضافة إلى شهادة: أعضاء بدن الإنسان ،الليل والنهار ..إلخ ..و«المشهود »: النّاس أو أعمالهم .
وبهذا ،يدُغم الكثير من التّفاسير المذكورة مع بعضها لتشكل مفهوماً واسعاً للآية المباركة .
ويخرج عن هذا الإدغام تلك التّفاسير التي تشير إلى: يوم الجمعة ،يوم عرفة ويوم الأضحى .
وإن كانت الأيّام المذكورة ستشهد على أعمال الإنسان يوم الحشر ،بل وكلّ يوم يجتمع فيه المسلمون يكاد يكون صورة مصغرة للحشر على رقعة الحياة الدنيا .
ومع كلّ ما ذُكر تتّضح صلة التآلف ما بين التّفاسير المذكورة أعلاه ،حيث من الممكن جمعها تحت مظلة شمول مفهوم الآية ،وهذا بحد ذاته يعكس لنا عظمة القرآن الكريم باحتوائه على هكذا مفاهيم واصطلاحات ..ف «الشاهد » ينطبق على كلّ مَن وما يشهد ،وكذا «المشهود » ينطبق على كّل مَن وما يشهد عليه ،وما ورودهما بصيغة النكرة إلاّ لتعظيمهما ،وهو ما ينعكس على كلّ التّفاسير .
وثمّة علاقة خاصة بين الأقسام الأربعة وبين ما اُقسم به ..فالسماء وما فيها من بروج تحكي عن نظام وحساب دقيق ،و«اليوم الموعود » يوم حساب وكتاب دقيق أيضاً ،و«شاهد ومشهود » أيضاً وسيلة للحساب الدقيق على أعمال الإنسان ،وكّل ذلك لتذكير الظالمين الذين يعذّبون المؤمنين ،عسى أن يكّفوا عن فعلتهم السيئة ،ولإعلامهم بأن كلّ ما يفعله الإنسان يسجل عليه وبحساب دقيق جدّاً وسيواجه بها في اليوم الموعود بين عتبات ساحة العدل الإلهي ،فسيشهد على أعمال النّاس الملائكة الموكلون لهذا الأمر وأعضاء بدن ذات الإنسان وكذا الليل والنهار و ..و ..و ..،وستكون الشهادة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنين إلاّ مَن أتّى اللّه بقلب سليم !{[5899]} .
/خ9