وبعد هذه الأقسام الأربع ،تقول الآية التالية: ( قتل أصحاب الأخدود ) .والمقصود هم الظالمين لا من القي في النّار ،فالجملة إنشائية والمراد هو اللعن والدعاء عليهم .
بحث
من هم أصحاب الأخدود ؟
قلنا إنّ «الأخدود » هو الشق العظيم في الأرض ،أو الخندق ..وهو في الآية إشارة إلى تلك الخنادق التي ملأها الكفار ناراً ليردعوا فيها المؤمنين بالتنازل عن إيمانهم والرجوع إلى ما كانوا عليه من كفر وضلال .
ولكن ..متى حدث ذلك ؟في أيّ قوم ؟وهل حدث مرّة واحدة أم لمرّات ؟في منطقة أم مناطق ؟
جرى بين المفسّرين والمؤرخين مخاض طويل بخصوص الإجابة عن هذه الأسئلة .
والمشهور: إنّ الآية قد شارت إلى قصة ( ذو نواس ) ،وهو آخر ملوك «حِميَر »{[5900]} في أرض «اليمن » .
وكان «ذو نواس » قد تهوّد ،واجتمعت معه حمير على اليهودية ،وسمّى نفسه ( يوسف ) ،وأقام على ذلك حيناً من الدهر ،ثمّ اُخبر أنّ «بنجران » ( شمال اليمن ) بقايا قوم على دين النصرانية ،وكانوا على دين عيسى( عليه السلام ) وحكم الإنجيل ،فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ،ويدخلهم فيها ،فسار حتى قدم نجران ،فجمع مَن كان بها على دين النصرانية ،ثمّ عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها ،فأبوا عليه ،فجادلهم وحرص الحرص كلّه ،فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها ،واختاروا القتل ،فاتخذ لهم أخدودا وجمع فيه الحطب ،وأشعل فيه النّار ،فمنهم مَن اُحرق بالنّار ،ومنهم مَن قُتل بالسيف ،ومُثّل بهم كلّ مثلة ،فبلغ عدد مَن قُتل واُحرق بالنّار عشرين ألفاً{[5901]} .
وأضاف بعض آخر: إنّ رجلاً من بني نصارى نجران تمكّن من الهرب ،فالتحق بالروم وشكا ما فعل ( ذو نواس ) إلى قيصر .
فقال قيصر: إن أرضكم بعيدة ،ولكنّي سأكتب كتاباً إلى ملك الحبشة النصراني وأطلب منه مساعدتكم .
ثمّ كتب رسالته إلى ملك الحبشة ،وطلب منه الانتقام لدماء المسيحيين التي أريقت في نجران ،فلمّا قرأ الرسالة تأثّر جدّاً ،وعقد العزم على الانتقام لدماء شهداء نجران .
فأرسل كتائبه إلى اليمن والتقت بجيش ( ذو نواس ) ،فهزمته بعد معركة طاحنة ،وأصبحت اليمن ولاية من ولايات الحبشة{[5902]} .
وذكر بعض المفسّرين: إنّ طول ذلك الخندق كان أربعين ذراعاً ،وعرضه اثني عشر ذراع ،( وكلّ ذراع يقرب من نصف متر ،وأحياناً يقصد به ما يقرب من متر كامل ) .
وقيل: إنّها كانت سبعة أخاديد ،وكلّ منها بالحجم الذي ذكرناه{[5903]} .
وذكرت القصّة في كتب تاريخية وتفسيرية كثيرة ،بتفاصيل متفاوتة ،منها: ما ذكره المفسّر الكبير الطبرسي في ( مجمع البيان ) ،وأبو الفتوح الرازي في تفسيره ،والفخر الرازي في ( تفسيره الكبير ) ،والآلوسي في ( روح البيان ) ،والقرطبي في تفسيره ،وكذلك ابن هشام في الجزء الأوّل من كتاب ( السيرة ) ص35 ..وغيرهم كذلك .
وقد تبيّن ممّا ذكرناه بأن العذاب الإلهي قد أصاب أولئك الذين قاموا بتعذيب المؤمنين ،وانتقم منهم في دنياهم جراء ما هدروا من دماء زكية بريئة ،وأنّ عذاب نار الآخرة لفي انتظارهم .
وأوّل من أوجد المحارق البشرية في التاريخ هم اليهود ،وسرت هذه الممارسة الخبيثة على أيدي الطواغيت المجرمين ،حتى شملت اليهود أنفسهم ،كما حدث في ألمانيا النّازية حينما اُحرق جمع كبير من اليهود في محارق هتلر كما هو المشهور ،فذاقوا «عذاب الحريق » في دنياهم قبل آخرتهم .
كما أصاب الخزي والعذاب ( ذو نواس اليهودي ) وهو مؤسس هذا الأسلوب القذر من الجريمة .
ذكرنا ما اشتهر بين أرباب التاريخ والتّفسير من قصّة أصحاب الأخدود ،وثمّة روايات تذكر بأنّ هذه الجريمة البشعة ما اقتصرت على أهل اليمن فقط ولم تقف عند عصر ( ذو نواس ) ،حتى قيل عشرة أقوال في ذلك .
وروي عن أمير المؤمنين( عليه السلام ) أنّه قال: «إنّهم كانوا مجوس ،أهل كتاب ،وكانوا متمسكين بكتابهم ،فتناول ملكهم الخمرة فوقع على أخته ،وبعد أن أفاق ندم ،فأعلن حِلية زواج الأخت ،فلم يقبل النّاس ،فهددهم فلم يقبلوا ،فخدّ لهم الأخدود ،وأوقد فيه النيران ،وعرض أهل مملكته على ذلك ،فمَن أبى قذفه في النّار ،ومَن أجاب خلّى سبيله »{[5904]} .
هذا في أصحاب فارس ..أمّا أصحاب أخدود الشام ،فهم قوم مؤمنون أحرقهم ( آنطياخوس ){[5905]} .
وقيل أيضاً: إنّ هذه الواقعة تعود لأصحاب نبيّ اللّه دانيال من بني إسرائيل ،وقد أشير إلى ذلك في كتاب دانيال من التوراة .
واعتبر الثعلبي: إنّهم هم الذين اُحرقوا في أخدود فارس{[5906]}
ولا يبعد انطباق قصة «أصحاب الأخدود » على كلّ ما ذكر ،وإنّ كان المشهور منها قصّة ( ذو نواس ) في أرض اليمن .
/خ9