التّفسير
نعمة العين واللسان والهداية:
استتباعاً للآيات السابقة وما دار فيها من حديث عن الغرور والغفلة في الطاغين ،تذكر هذه الآيات الكريمة جانباً من أهم ما أنعم اللّه به على الإنسان من نعم مادية ومعنوية ...كي تكسر روح الغرور ،وتدفع إلى التفكير في خالق هذه النعم ،ولكي تحرّك روح الشكر في نفس الكائن البشري ومن ثمّ تسوقه إلى معرفة الخالق:
( ألم نجعل له عينين ؟ولساناً وشفتين ؟وهديناه النجدين )
في هذه العبارات القصيرة إشارة إلى ثلاث نعم مادية هامّة ونعمة معنوية كبرى هي بمجموعها من أعظم النعم الإلهية: نعمة العين واللسان والشفة من جانب ،ونعمة الهداية ومعرفة الخير والشرّ من جانب آخر .
«النجد »: في الأصل يعني المكان المرتفع ،ويقابلها «تهامة » وهي الأرض المنخفضة ،وهنا كناية عن الخير والشرّ وعن سير السعادة والشقاء{[5999]} .
ويكفي أن نذكر في النعم السابقة أنّ:
«العين »: أهم وسيلة لإرتباط الإنسان بالعالم الخارجي ،عجائب العين تدفع الإنسان حقّاً إلى الخضوع أمام خالقه ،الطبقات السبع للعين وهي المسماة بالقرنية ،والمشيمية ،والعنبية ،والجلدية ،والزلالية ،والزجاجية ،والشبكية ،لكلّ منها تركيب عجيب دقيق مدهش ،روعيت فيها القوانين الفزيائية والكيمياوية المتعلقة بالنور وانعكاساته على أدق وجه ،حتى إن أعقد أجهزة التصوير تعتبر تافهة مقارنة بهذا العضو .
لو لم يكن في الكون سوى الإنسان ،ولم يكن من وجود الإنسان سوى العين ،لكانت مطالعة هذا العضو كافية وحدها لمعرفة علم اللّه الواسع وقدرته الجبّارة جلّ وعلا .
بحث
عجائب العين
العين يشبهونها عادة بآلة التصوير ( الكاميرا ) ،فهي تلتقط الصور من عدستها الدقيقة ،بدلاً من أن تعكسها على اللوح الحساس ( الفيلم ) كما تفعل الكاميرا ،تعكس الصور على شبكية العين ،ومن ثمّ تنتقل عن طريق الأعصاب البصرية إلى الدماغ .
آلة التصوير الدقيقة الظريفة هذه قد تلتقط يومياً ملايين الصور ،غير أنّها من جهات مختلفة لا يمكن مقارنتها حتى بأعقد وأحدث أجهزة التصوير ،لأنّه:
1فتحة تنظيم النور ( ديافراغم ) في جهاز العين ،وهو بؤبؤ العين ،يعمل بشكل تلقائي أمام تغيير النور ،فيتقلص أمام النور القوي ،ويتسع أمام النور الضعيف ،بينما أجهزة التصوير بحاجة إلى تنظيم بيد المصور .
2عدسة العين خلافاً لأنواع عدسات أجهزة التصوير تتغير بتغير بعد الصورة عنها ،فيكون قطرها حيناً 5 ، 1 ملم ،ويصل أحياناً إلى 8 ملم ،وهذا التغيير يتمّ بواسطة عضلات تتقلص وتنبسط حسب بُعد الصورة المرئية ،فعدسة العين تستطيع أن تعمل ما تعمله مئات العدسات الزجاجية .
3العين تستطيع أن تتحرك في الجهات الأربع بمساعدة العضلات وتلتقط الصور في الإنحاء المختلفة .
4والمهم ،أن أجهزة التصوير بحاجة إلى تبديل أفلامها ،فإذا انتهت حلقة فيلم ،فلابدّ من فيلم آخر .لكن عين الإنسان تلتقط الصور طوال عمر الإنسان دون أن تحتاج إلى تعويض شيء ،ويعود السبب إلى أن الشبكية التي تنعكس عليها الصور تحتوي على نوعين من الخلايا «المخروطية » ،و«الإسطوانية » فيها مادة حساسة للغاية تجاه النور تتحلل بأقل شعاع من نور في الشبكية وتتحول إلى أمواج تنتقل إلى الدماغ ،ثمّ يزول الأثر وتستعد الشبكية لإلتقاط صور جديدة .
5أجهزة التصوير مصنعة من مواد قويّة جدّاً ،لكن جهاز العين لطيف وظريف إلى درجة كبيرة ،لذلك وضع في محفظة عظيمة مستحكمة ،والعين مع ظرافتها ولطافتها أكثر دواماً بكثير من الحديد والفولاذ .
6مسألة تنظيم النور ذات أهمية فائقة للمصورين ،وقد يطول الزمن بالمصور كي يستطيع تنظيم إضاءة الصورة ،بينما تستطيع العين في جميع ظروف النور القوي والمتوسط والضعيف بل حتى في الظلام شريطة وجود بصيص من النور أن تلتقط الصور ،وهذا من عجائب العين .
7حين ننتقل فجأة من النور إلى الظلمة ،أو حين تنطفئ مصابيح الغرفة في الليل ،لا تستطيع أعيننا في البرهة الاُولى أن ترى شيئاً ،ثمّ بالتدريج تعتاد العين على الظرف الجديد فترى ما حولها ،وهذا التعوّد هو تعبير بسيط عن التحول المعقد الذي يحدث في العين ،ويؤدي خلال لحظات بسيطة إلى الإنسجام بين العين والظروف الجديدة .
وعكس ذلك يحدث عندما ننتقل من الظلام إلى النور ،فالعين في البداية لا تتحمل النور القوي ،ولكن بعد لحظات تتواءم مع الظرف الجديد ،ومثل هذه الخصائص لا توجد اطلاقاً في أجهزة التصوير .
8أجهزة التصوير تستطيع أن تصور زاوية محدودة ممّا يقع أمامها ،بينما عين الإنسان تستطيع أن تلتقط كلّ ما في نصف الدائرة الاُفقية أيامها بزاوية مقدارها 180 درجة تقريباً .
9من عجائب العينين أنّهما تلتقطان الصورة لتعكساها معاً في نقطة واحدة ،وإذا اختل هذه التنظيم تصاب العين بالحول ويرى الفرد الشيء الواحد شيئين .
10ومن الطريف أن صورة الأجسام تنعكس على الشبكية مقلوبة ،بينما لا نرى نحن الأشياء مقلوبة .
11سطح العين يجب أن يبقى رطباً دائماً ،وإذا جفّ اضرّ بالعين كثيراً ،وهذه الرطوبة تفرزها الغدد الدمعيّة ،فتدخل العين من جانب وتخرج عن طريق قنوات دقيقة تقع في جانب من العين إلى الأنف ،فترطب الأنف أيضاً .
وإذا جفت الغدد الدمعية ،تتعرض العين للخطر ،وتتعذر حركة الأجفان ،وإن زاد نشاط هذه الغدد أكثر من المطلوب يسيل الدمع باستمرار على الوجه ،وإذا انسدّ طريق القنوات التي تدفع الدمع من العين إلى الأنف ،فلابدّ للفرد أن ينشغل دائماً بتجفيف الماء المتصبب على وجهه .
12تركيب الدمع معقد فيه أكثر من عشرة عناصر تشكل معاً أفضل سائل للحفاظ على العيم .
بعبارة موجزة عجائب العين من الكثرة بحيث تتطلب كتابة المجلدات الضخام ،وليست هي أكثر من شحمة صغيرة ،وحقّاً ما قاله أمير المؤمنين علي( عليه السلام ): «اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم ،ويسمع بعظم ،ويتنفس من خرم »{[6000]} .