قوله تعالى: ( فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدوركم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) .
ثمة اختلاف في سبب نزول هذه الآيات .فقد ورد أنها نزلت في المنافقين الذين انشقّوا عن المسلمين في معركة أحد ،مما جعل المسلمين في شديد من الحرج والخطر وكان على رأس المنافقين حينئذ كبيرهم عبد الله بن أبيّ بن سلول .ومن بعد ذلك اختلف المسلمون في حقيقة أمر هؤلاء المنشقّين الذين خانوا الله ورسوله في أخطر الأحوال ،فقال بعضهم: ما لنا ولهؤلاء فهم مؤمنون مثلنا ولا يضر ما احتملوه من الخطأ .وقال آخرون من المسلمين: بل إنهم منشقّون ضالّون يجب محاربتهم وقتلهم حتى نزلت هذه الآيات .
وورد أيضا أنها نزلت في الذين أبدوا إيمانهم في مكة لكنهم رفضوا أن يهاجروا مع المسلمين والنبيّ إلى المدينة رغبة في بلدهم وقومهم وقالوا: إن ظهر محمد على خصومه فهو يعرف أننا مؤمنون فلا يضرّنا وإن وقعت الدائرة على المسلمين كنا مع قومنا هنا وبذلك ننجو على كلتا الحالين .فنزل قوله تعالى: ( فما لكم في المنافقين فئتين ...) وعلى أية حال فإن هؤلاء الذين نزلت فيهم الآية هم فريق من أهل النفاق وقد وصمتهم الآية بذلك في وضوح مع الاعتبار بأن سياق الآيات يرجّح الرواية الثانية في سبب النزول لقوله تعالى: ( فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ...){[801]} .
وقوله: ( فما لكم ) فيه استفهام يتضمن استنكارا لما يظنه بعض المسلمين بأن هذه الفرقة المتخاذلة المتخلفة على شيء من الإيمان ،وفي الحقيقة هم ليسوا من أهل الإيمان في شيء ،بل إنهم فرقة فاسدة قد انطوت على الغش والخداع وهم يتربصون بالمسلمين دائرة السوء .أما وقد اتضحت مقاصدهم الفاسدة فقد بات قتالهم مشروعا .وقد يرد في ذلك تساؤل عن قتال هؤلاء المنافقين مع أنهم لا يقاتلون أصلا ،ولا ينبغي قتال أحد غير المشركين .والجواب عن ذلك أن هؤلاء – وإن كانوا منافقين- فقد ظهر كفرهم ،واستبانت حقيقتهم ،وهي أنهم منافقون أظهروا كفرا واضحا بدليل الآية فوجب قتالهم .ولا يدفع عنهم القتل إلا أن يهاجروا ؛لما في ذلك من دفع لتهمة الكفر عنهم والله سبحانه أعلم .
وقوله: ( فئتين ) منصوب على الحال .ثم قوله: ( أركسهم ) من الركس أو الارتكاس وهو يعني الانتكاس أي قلب الشيء رأسا على عقب{[802]} .
وفي الآية رفض لظن بعض المسلمين بأن هؤلاء المتخلفين المتخاذلين على شيء من الإيمان فهم فئة ضالة انكشف فسادها وسوؤها ( والله أركسهم بما كسبوا ) أي أن الله- جلّت قدرته- قد ردّهم منكوسين إلى الضلال والهاوية بسبب تخلّفهم عن ركب المسلمين وتخذيلهم لهم سواء بانصرافهم من أرض المعركة في أحد أو إيثارهم البقاء في مكة حيث الشرك والمشركون بعد أن رفضوا طلب النبي ( ص ) بالهجرة .
قوله: ( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) .وذلك استنكار للظن بأن الهداية مقدور عليها من أحد من الناس وأن الناس يملكون هداية البشر وحملهم على الإيمان .ذلك إن كانت الهداية يقصد بها الرشاد والاستقامة أما إن كان يقصد بها الدلالة فذلك شأن آخر .وما يمكن تسجيله هنا في هذا الصدد هو أن الله- جلت قدرته- قادر على كلا الأمرين الهداية والإضلال ،وأن من اهتدى أو ضلّ من الناس لم يكن بذلك متجاوزا لسلطان الله وقضائه ،فالله جلّت قدرته لا يعز عليه إضلال أحد أو هدايته ولا يعجزه سوق أحد إلى حيث يكتب أو يريد .ولكن الله سبحانه قد بث في الإنسان أسباب الاهتداء وأسباب الضلال ،وهو ( الإنسان ) ماض في الحياة على شيء من الاقتدار على التصرف الحر أو الإرادة المقدورة .فإن أساء وظلم ولم يتخيّر سبيل الهداية بات مستحقا لإضلال الله له بعد أن فرّط في الأسباب التي تقوده إلى السلامة .والإنسان إذا ما فرّط في أسباب الخير والاهتداء التي خوله الله إياها والتي بموجبها يمضي مهتديا مستقيما بات غير مستحق لرحمة الله وإرشاده ،وهو إن كان كذلك فليس له إذن من يهديه ولن يكون له بعد ذلك طريق مؤدية إلى النجاة أو الفوز .