/م88
روى ابن جرير في التفسير عن ابن عباس بعد ذكر سنده من طريق محمد بن سعد:قوله:{ فما لكم في المنافقين فئتين} وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا:إن لقينا أصحاب محمد عليه السلام فليس علينا منهم بأس وأن المؤمنين لما أخبروا خرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم قالت طائفة من المؤمنين اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم .وقالت فئة أخرى من المؤمنين سبحان اللهأو كما قالواتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم ، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك ؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فنزلت .وذكر الآية .وهذا لا يدل على أن أولئك القوم قد أسلموا بالفعل كما توهمه عبارة بعض الناقلين .وروى ابن جرير عن معمر بن راشد قال بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم قد أسلموا وكان ذلك منهم كذبا ، فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة دماؤهم حلال ، وقالت طائفة دماؤهم حرام ، فأنزل الله الآية .
وروي أيضا عن الضحاك قال هم ناس تخلفوا عن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون ، وقالوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجر فسماهم الله منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .
ثم ذكر ابن جرير روايات من قال إنها نزلت في منافقين كانوا في المدينة وأرادوا الخروج منها معتذرين بالمرض والتخمة ، ومن قال إنها نزلت في أهل الأفك ثم رجح قول من قالوا أنها نزلت في قوم من مكة ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم لذكر الهجرة في الآية .
ومن المعهود أنهم يجمعون بين الروايات في مثل هذا بتعدد الوقائع ونزول الآية عقبها ، ولا يمنعهم من هذا أن يكون بين الوقائع تراخ وزمن طويل ، وأقرب من ذلك أن يحملها كلٌّ على واقعة يرى أنها تنطبق عليها من باب التفسير لا التاريخ ، ولكن من الروايات ما يكون نصا أو ظاهرا في التاريخ وتعيين الواقعة ، إلا أن تكون الرواية منقولة بالمعنى كما هو الغالب وحينئذ تكون الرواية في سبب النزول ليست أكثر من فهم للمروي عنه في الآية ورأي في تفسيرها يخطئ فيه ويصيب ، ولا يلزم أحدا أن يتبعه فيه ، بل لمن ظهر له خطؤه أن يرده عليه ولا سيما إذا كان ما يتبادر من معنى الآيات يأباه .وقد رأيت أن بعضهم رد رواية الصحيحين في جعل المراد بالمنافقين هنا فئة عبد الله بن أبيّ ابن سلول الذين رجعوا عن القتال في أحد واستدلوا بما رأيت من ذكر المهاجرة في الآية الثانية ، ويمكن تأويل هذا اللفظ بما تراه .وأقوى منه في رد هذه الرواية وما دونها في قوة السند من سائر الروايات ( أي التي جعلت الآية في منافقي المدينة ) إن الأحكام التي ذكرت في هذه الآيات لم يعمل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بها في أحد ممن قالوا إنها نزلت فيهم وهو قتلهم حيثما وجدوا بشرطه ، وهذه آية من آيات صد بعض الروايات الصحيحة السند عن الفهم الصحيح الذي يتبادر من الآيات بلا تكلف .
ورجح ابن جرير وغيره رواية ابن عباس ( رضي الله عنه ) في نزول هذه الآية في أناس كانوا بمكة يظهرون الإسلام خداعا للمسلمين وينصرون المشركين .وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إنها نزلت في المنافقين في الولاء والمحالفة وهذه عبارته في الدرس:الفاء في قوله تعالى:{ فما لكم في المنافقين فئتين} تشعر بارتباط الآية بما قبلها ، وزعم بعضهم أن الفاء للاستئناف وهذا لا معنى له وإنما يخترع الجاهل تعليلات ومعاني لما لا يفهمه ( وقد يخترع الروايات كما صرح به في غير موضع ) فالآية مرتبطة بما قبلها أشد الارتباط إذ الكلام السابق كان في أحكام القتال حتى ما ورد في الشفاعة الحسنة والسيئة ، وقد ختمه بقوله: "الله لا إله إلا هو "الخ أي لا إله غيره يخشى ويخاف أو يرجى فتترك تلك الأحكام لأجله ، ثم جاء بهذه الآيات موصولة بما قبلها بالفاء وهي تفيد تفريع الاستفهام الإنكاري فيها على ما قبله ، أي إذا كان الله تعالى قد أمركم بالقتال في سبيله وتوعد المبطئين عنه والذين تمنوا تأخير كتابته عليهم ، وإذا كان لا إله غيره فيترك أمره وطاعته لأجلهفما لكم تترددون في أمر المنافقين وتنقسمون فيهم إلى فئتين ؟ .
قال:والمنافقون هنا غير من نزلت فيهم آيات البقرة وسورة المنافقين وأمثالهن من الآيات ، المراد بالمنافقين هنا فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين والولاء لهم وهم كاذبون فيما يظهرون ، ضلعهم مع أمثالهم من المشركين ، ويحتاطون في إظهار الولاء للمسلمين إذا رأوا منهم قوة ، فإذا ظهر لهم ضعفهم انقلبوا عليهم وأظهروا لهم العداوة .فكان المؤمنون فيهم على قسمين منهم من يرى أن يعدوا من الأولياء ويستعان بهم على سائر المشركين المحاذين لهم جهرا ، ومنهم من يرى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المجاهرين بالعداوة ( وعبارته ممن لا ينافق ) فأنكر الله عليهم ذلك وقال:{ والله أركسهم بما كسبوا} أي كيف تتفرقون في شأنهم والحال أن الله تعالى أركسهم وصرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشرك والمعاصي حتى أنهم لا ينظرون فيه نظر إنصاف وإنما ينظرون إليكم وما أنتم عليه نظر الأعداء المبطلين ويتربصون بكم الدوائر اه ما نقلناه عن الدرس وليس عندنا عنه هنا شيء آخر .
أقول الركس بفتح الراء مصدر ركس الشيء يركسه ( بوزن نصر ) إذا قلبه على رأسه أو رد آخره على أوله ، يقال ركسه وأركسه فارتكس .قال في اللسان بعد معنى ما ذكر:وقال شمر بلغني عن ابن الأعرابي أنه قال المنكوس والمركوس المدبر عن حاله والركس ردّ الشيء مقلوبا اه ويظهر أنه مأخوذ من الركس ( بكسر الراء ) وهو كما في اللسان شبيه بالرجيع ، وأطلق في الحديث على الروث .والحاصل أن الركس والأركس شر ضروب التحول والارتداد وهو أن يرجع الشيء منكوسا على رأسه إن كان له رأس أو مقلوبا أو متحولا عن حاله إلى أردأ منها كتحول الطعام والعلف إلى الرجيع والروث ، والمراد هنا تحولهم إلى الغدر والقتال أو إلى الشرك .وقد استعمل هنا في التحول والانقلاب المعنوي أي من إظهار الولاء والتحيز إلى المسلمين إلى إظهار التحيز إلى المشركين ، وهو شر التحول والارتداد المعنوي كأن صاحبه قد نكس على رأسه وصار يمشي على وجهه:{ أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم} [ الملك:22] ومن كانت هذه حاله في ظهور ضلالته في أقبح مظاهرها فلا ينبغي أن يرجو أحد من المؤمنين نصر الحق من قبله ، ولا أن يقع الخلاف بينهم وبين سائر إخوانهم في شأنه .
وقد أسند الله تعالى فعل هذا الإركاس إليه وقرنه بسببه وهو كسب أولئك المركسين للسيئات والدنايا من قبل حتى فسدت فطرتهم وأحاطت بهم خطيئتهم فأوغلوا في الضلال وبعدوا عن الحق حتى لم يعد يخطر على بالهم ولا يجول في أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه ، مقاومة ظاهرة عند القدرة ، وخفية عند العجز ، هذا هو أثر كسبهم للسيئات في نفوسهم وهو أثر طبيعي ، وإنما أسنده الله تعالى إليه لأنه ما كان سببا إلا بسنته في تأثير الأعمال الاختيارية في نفوس العاملين ، أو معنى أركسهم أظهر ركسهم بما بينه من أمرهم وهذا هو معنى قوله:{ أتريدون أن تهدوا من أضل الله} وهو استفهام إنكاري معناه ليس في استطاعتكم أن تغيروا سنن الله في نفوس الناس ، فتنالوا منها ضد ما يقتضيه ما انطبع فيها من الأخلاق والصفات ، بتأثير ما كسبته طول عمرها من الأعمال .
{ ومن يضلل الله} أي من تقضي سنته تعالى في خلقه بأن يكون ضالا عن طريق الحق:{ فلن تجد له سبيلا} يصل بسلوكها إليه فإن للحق سبيلا واحدة وهي صراط الفطرة المستقيم ، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وشمالها كل من سلك سبيلا منها بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله في السبيل التي سلكها:{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [ الأنعام:153] ولما تلا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية وضح معناها بالخطوط الحسية فخط في الأرض خطا جعله مثالا لسبيل الله وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان ، ومن المحسوس الذي لا يحتاج إلى ترتيب الأقيسة للاستدلال أن غاية أي خط من تلك الخطوط لا تلتقي بغاية الخط الأول .
قلت إن سبيل الحق هي صراط الفطرة ، وبيان هذا أن مقتضى الفطرة أن يستعمل الإنسان عقله في كل ما يعرض له في حياته ويتبع فيه ما يظهر له بعد النظر والبحث أنه الحق الذي باتباعه خيره ومنفعته العاجلة والآجلة وكماله الإنساني ، على قدر علمه بالحق والخير والكمال ، ومن مقتضى الفطرة أن يبحث الإنسان دائما ويطلب زيادة العلم بهذه الأمور ، ولا يصده عن هذا الصراط المستقيم شيء كالتقليد والغرور بما هو عليه وظنه أنه ليس وراءه خير له منه وأنفع وأكمل ، أولئك الذين يقطعون على نفسهم طريق العقل والنظر ، والتمييز بين الخير والشر ، والنفع والضر ، والحق والباطل ، فيكونون أتباع كل ناعق ، ويسلكون ما لا يحصى من السبل وإن ادعى كل منهم الانتساب إلى زعيم واحد ، وشبهتهم على ترك صراط الفطرة أن عقولهم قاصرة عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر ، وأنهم اتبعوا من بلغهم من آبائهم ومعاشريهم أنهم كانوا أقدر منهم على معرفة ذلك وبيانه ، والحق الواقع أنهم لا يعلمون حقيقة ما كان عليه أولئك الزعماء ولا شيئا يعتد به من علمهم ، وإنما يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم من الثقة بزعماء عصرهم ولو كان آباؤهم وزعماؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، ومن قطع على نفسه طريق النظر ، وكفر نعمة العقل ، لا يمكن إقامة الحجة عليه ، ولذلك قال تعالى:{ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} [ النساء:88] فإن{ سبيلا} نكرة في سياق النفي تفيد العموم كأنه قال من ترك سبيل الله وهي اتباع الفطرة باستعمال العقل كان من سنة الله أن يكون ضالا طول حياته إذ لا تجد له سبيلا أخرى يسلكها فيهتدي بها إلى الحق .