قوله تعالى:{يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكفرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ( 54 ) إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون ( 55 ) ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون} .
نزلت هذه الآية في أهل الردة .وهذا من إعجاز القرآن ،إذ أخبر عن ارتداد العرب عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .فكان ما أخبره به الله في قرآنه قبل وقوعه .فقد ورد في السيرة عن ابن إسحق قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين .فكانت عائشة ،فيما بلغني تقول: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ،لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم ،حتى جمعهم الله على أبي بكر .وفيما ذكر أيضا أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بالرجوع عن الإسلام حتى خافهم عتاب بن أسيد ( والي مكة حينئذ ) فتوارى .فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة ،فمن رابنا ضربنا عنقه .فتراجع الناس وكفوا عما هموا به ،وظهر عتاب بن أسيد .فهذا المقام الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لعمر بن الخطاب: إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه{[1006]} .
يتبين من مثل هذه القصة وغيرها من الأشباه والنظائر أن هذا القرآن معجز وأنه من عند الله وأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه ليكون للناس بشيرا ونذيرا .
قوله:{من يرتد منكم عن دينه} أصل يرتد يرتدد: بدالين .ويرتد بدال واحدة مشددة للإدغام .
وتأويل الآية يحتمل وجهين:
الأول: وهو تحذير المؤمنين من تولي المشركين ومناصرتهم في محاربة المسلمين .
فإن موالاة الكافرين ومعاضدتهم وذل العون والنصرة لهم لحرب المسلمين ليس إلا الردة التي ينسلخ بها المنافق من ربقة الإسلام ليكون في عداد الكافرين الذين تحل دماؤهم ،وليعلم هؤلاء أن الله سيأتي بأقوام آخرين ينصرون دينه .
الوجه الثاني: الكشف عن علم الله بأن قوما من المسلين سيرجعون عن الإسلام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم الله أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه ،وعلى هذا الوجه فإن الآية إخبار عن غيب مستور ،وقد وقع ما أخبرت الآية به .وذلك وجه من وجوه الإعجاز في الكتاب الحكيم .وهذا مقتضى قوله تعالى:{فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} ومحبة الله لعباده المؤمنين إنما هي على الكيفية والمعنى اللذين أرادهما الله .ومن ظواهر محبة الله للعباد أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويجزيهم بفيض الرضا والثناء .وأما محبة العباد لربهم فهو أن تميل قلوبهم ومشاعرهم إلى الله بما يشير إلى كامل التوجه إليه وصادق الإخلاص له وحده جل شأنه .وهو ما يقتضي منهم طاعة ربهم وابتغاء رضوانه ومجانبة زواجره ونواهيه .
قوله:{أذلة على المؤمنين} أذلة صفة لقوم .وهو جمع ذليل وليس ذلولا فجمعه ذلل .وليس المراد من كونهم أذلة أنهم مهانون يجدون في أنفسهم استخذاء وزراية .بل إن المراد المبالغة في وصفهم بالرفق والهوادة ولين الجانب .وذلك هو خلق المسلمين الحقيقيين فيما بينهم .فهم لا جرم أخوة متوادون متراحمون يعامل بعضهم بعضا بالتسامح والرأفة وفي غاية التواضع والرحمة .
قوله:{أعزة على الكفرين} أي أشداء في مواجهتهم متغلبون عليهم .من قوله عزّه أي غلبه .والمسلمون في ذلك يجدون في أنفسهم الإحساس بالعزة والاستعلاء لما تحفل به أذهانهم وتصوراتهم من مطلق القناعة الكاملة بروعة الإسلام وكماله وصلوحه .فهم بذلك على الحق ويدعون الناس إلى الحق .
قوله:{يجاهدون في سبيل الله} وذلك بكل أساليب الجهاد سواء بالكلمة الحانية المثلى أو المجادلة المؤثرة النافذة إلى القلوب والعقول ،أو القتال إذا لم تجد أسباب الهداية والمنطق والرفق .وذلك كله من أجل إعلاء كلمة الله وإحقاق الحق ليشيع في الآفاق وكيما تترسخ في الدنيا قواعد العدل والأمن والرحمة .
قوله:{ولا يخافون لومة لائم} الواو للعطف .أي أن المؤمنين الصادقين من شأنهم أنهم مجاهدون ابتغاء رضوان الله وأنهم أقوياء صلاب في الحق وفي الدعوة إلى الله مجاهرين عن ثقة ويقين بالإعلان عن دين الإسلام من غير أن يثنيهم عن ذلك خوف أو وجل ،أو تصدهم عنه لومة اللائمين على اختلاف مراتبهم ومسمياتهم .إن الدعاة إلى الإسلام لا يعبأون بكل هاتيك العراقيل التي ينصبها المعوقون والمبطلون والظالمون في طريق الإسلام .فهم ماضون على طريق الله داعين إليه على بصيرة مهما تفاقمت النوائب والخطوب حتى يحكم الله بأمره بين الناس وهو خير الحاكمين .
قوله:{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} اسم الإشارة هنا إلى ما تقدم ذكره من أوصاف المؤمنين بالتواد والتراحم فيما بينهم ،والعزة على الظالمين ،والمجاهدة لإعلاء كلمة الله ،وعدم الخشية من لومة اللائمين ،فإن ذلك كله حاصل للمؤمنين بفضل من الله وإحسان .والله جلت قدرته{واسع} أي كثير الفضل ،جواد .وهو كذلك{عليم} أي كامل العلم لا يخفى عليه شيء في الكون ،فلا يقع في إخباره ومواعيده خلف أو هو عليم بمصالح العباد{[1007]} .
وثمة مسألة عن المراد بالقوم الذين سيأتي بهم الله ،والذين يحبهم الله وهم يحبونه فقد قيل: إنهم أبو بكر وأصحابه الأبرار ،لأنهم هم الذين قاتلوا المرتدين فكسروا شوكتهم وأخضعوهم لسلطان الله وشرعه .وهو قول علي وآخرين من أهل العلم .وقيل: نزلت الآية في الأنصار ،لأنهم هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوه على إظهار الإسلام .وقيل: نزلت في أهل اليمن .ففي الحديث المرفوع أنه لما نزلت هذه الآية أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال:"هم قوم هذا "وقيل: غير ذلك .
أما ما تحذلقت به حناجر الروافض من أن الذين أقروا بخلافة أبي بكر وإمامته كلهم كافرون مرتدون ،فإنه ضرب من الهذيان الأرعن الذي لا يستحق غير الاستهجان والاستقباح والازدراء ،فهو تخريص باطل ومكذوب وفي غاية التهافت الفاجر والإسفاف الظلوم .
ومن الحق واليقين أن كلا من الخلفاء الراشدين الأربعة موضع ثقة وائتمان خالصين .وأن إمامتهم موضع احترام واعتبار وتقدير لدى كل المسلمين في سائر الأزمان .أما استدلال الروافض بهذه الآية على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي ابن أبي طالب وأن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا خاطئين لمخالفتهم مدلول هذه الآية وبانتزاعهم الإمامة من علي مع التشنيع عليهم بفاحش القول ،ومهين الشتائم ،فذلك محض فسق وافتراء وإيغال شنيع في الجهالة .بل إنه بهتان من القول تتقزز منه مشاعر المؤمنين الصادقين وفي طليعتهم على بن أبي طالب كرم الله وجهه ،فقد كان من أعلم الناس بتأويل الكتاب الحكيم وهو أعلم من هؤلاء الروافض بذلك قطعا فلو كانت الآية دالة على إمامته هو دون غيره لاحتج بها ولو مرة واحدة .