استبدال الله المرتدّين بقوم يحبهم ويحبونه
هل كان هناك حالة ارتدادٍ عن الدين ،في مستوى الظاهرة ،ليأتي هذا النداء الحاسم الَّذي يوحي بالتهديد من جهة ،والاستهانة من جهة أخرى ؟لأنَّ هؤلاء الَّذين يواجهون الموقف بهذا الأسلوب قد يتخيلون أنَّ ذلك يضعف الإسلام ،ويوهن قوّة المسلمين ،لما يرونه لأنفسهم من الأهمية الكبرى في داخل المجتمع الإسلامي ،بحيث لا يستطيع المجتمع أن يجد بديلاً عنهم ،كالكثيرين من النَّاس الَّذين يعطون لأنفسهم دوراً أكبر من دورهم ،في ما يخيّل إليهم من ضخامة شخصيتهم ،بالحجم الَّذي لا يسد مسدّه أحد ؟
وقد لا يكون من الضروري أن يكون الموقف بهذه الخطورة ،على هذا المستوى ،بل قد تكون الآية تابعةً للجو الَّذي انطلقت فيه الآيات السابقة الّتي كانت تشيربطريقةٍ إيحائيّةٍ وتقريريّةٍإلى النماذج الّتي تقدِّم لغير المسلمين فروض الطاعة والولاء ،في أساليب متنوعة تُمثِّل التنازل الفكري والعملي عن كثير من قضايا الإسلام المهمة ،ما يوحي بارتدادٍ واقعيٍّ عن الخط الإسلامي ،وبالتالي ابتعاد عن الدين ،وقد يؤدي ذلك إلى الخروج منه كلياً بشكل رسميٍّ في الحالات الضاغطة التي تفرض عليهم الاندماج في المجتمع الآخر ،نظراً إلى ضعف العقيدة والوازع الديني في أنفسهم ،وقوّة الدافع الذاتي في نوازعهم ،وربَّما كان هذا أقرب إلى جو الآيات الّتي تعمل على أن تمارس ضد هؤلاء لوناً من ألوان الضغط النفسي ،بالإيحاء لهم بأنَّهم لا يُمثِّلون الكثير من مواقع القوّة في المجتمع الإسلامي ،بل هم مجرّد مرحلةٍ تافهةٍ لا قيمة لها في جوانبها السلبيّة والإيجابيّة !
فهناك أكثر من مرحلةٍ من مراحل التطلّع الإسلامي إلى المستقبل ،في ما تبشر به خطوات الطلائع الإسلاميّة الجديدة الّتي عاشت الإسلام في أعماقها الفكريّة والشعوريّة حبّاً لله ،وفناءً في طاعته ،وخوفاً منه ،وسارت على الخط المستقيم في الاتجاه السليم الَّذي يؤدي إلى رضوانه ،وبذلك فلا بُدَّ من أن يعرف هؤلاء وغيرهم من الَّذين يعتبرون الحياة خاضعة لمواقفهم السلبيّة والإيجابيّة في وجودها وفنائها ،أنَّ الله سيأتي بقوم لا يشبهونهم في كل مواقف الاهتزاز والتذبذب ،بل يمثلون الصدق في العقيدة ،والثبات في الموقف ،والاستقامة في الطريق ،والوضوح في الرؤية .فهم قد حازوا محبة الله لهم لأنَّهم أطاعوه حقّ طاعته ،وعبدوه حقّ عبادته ،وهم يحبون الله ،حبّاً ملك عليهم فكرهم وشعورهم ،لأنَّهم عرفوه في آفاق عظمته ومواقع نعمه ،فإذا انطلقوا في الحياة الاجتماعيّة العمليّة ،فإنَّ مواقفهم تجاه الآخرين ،تتحدد بالخط الَّذي يلتزم به هؤلاء الآخرون ،فإذا كان الخط إيماناً وسلاماً وصلاحاً ،فهم المتواضعون الذين يخفضون للمؤمنين جناح الذل ،من دون أن يعانوا أيّة عقدة في ذلك كله ،لأنَّهم لا يعيشون المشاعر الذاتيّة في علاقتهم بهؤلاء ،لأنَّ العلاقة بالله هي القاعدة الّتي يتمسك بها الجميع ،ولأنَّ الإسلام اعتبر أفراد المجتمع المؤمن كالجسد الواحد ،فلا إثنينيّة لتتحرك النوازع الفرديّة في نطاقها الذاتي المعقد ،وإذا كان الخط كفراً وفساداً وظلماً وشراً ،فهم الأعزاء الَّذين لا يتنازلون بل يترفعون ،لأنَّ القضيّة ليست قضيّة إنسانيّة تتحرك في خطوات المشاعر ،بل هي رساليّة تتميّز في حساب المواقف ،فليس هنا إنسانٌ يترفع عن إنسان ،بل عقيدة تعلو عقيدة ،وحركة تواجه حركة ،ورسالة ترتفع فوق استعراضات المنافع .
ومن هنا جاء هذا النداء الإلهي لهم:{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} فإذا واجهوا التحديات ،ووقف الكفر في جانب ليحارب تعاليم الله وشرائعه ،ويهاجم عقيدة الحقّ ورسالته ،كانوا في المواقع الصلبة الصعبة ،شرارةً من نار ،ويقظةً من نور ،وحركةً من فكر ،وصرخةً من حقّ ،وموقفاً من عدل ،وجهاداً في معركة ،وانطلاقةً في سبيل الله ،فهم الأشداء الثابتون الَّذين لا يتزلزلون ولا يرتبكون ،وهم الواثقون بالحق ثقتهم بالله ،فقد يسمعون اللائمين الَّذين يأخذون عليهم قسوة موقفهم وصلابة رأيهم ،ويطلبون منهم التراجع عن ذلك ليحصلوا على رضى هذا الفريق وذاك ،ولكنَّهم يرفضون ذلك بإباءٍ وإيمانٍ ،لأنَّ الموقف ليس ملك أيديهم ،بل هو ملك الله ،فلا يملكون حريّة الانسحاب لو أرادت منهم أنفسهم ذلك ،ولا تأخذهم في الله لومة لائم ،وذلك هو فضل الله عليهم بأن مَنَّ عليهم بهدى الإيمان ،وإشراقة الحقّ ،بحيث يتحوّل الإنسان إلى ينبوعٍ من النور ،يتدفق بكل أريحيات اللطف الإلهي ،والله واسعٌ في رحمته ولطفه ورضوانه ورعايته لعباده المؤمنين ،عليمٌ بما يحتاجون إليه في المراحل الصعبة من جهادهم في طريق الله .
ولكن ،هل تشير الآية إلى جماعةٍ معينة من هؤلاء المؤمنين المخلصين ؟ربَّما كانت بعض الأحاديث أو التفاسير تتضمن الإشارة إلى ذلك ،ولكنَّ هذا داخل في عالم التطبيق على بعض الأفراد الطليعيين الَّذين عاشوا في عصور الإسلام الذهبيّة في عهد الدعوة والجهاد ،لأنَّ الآية تسير مع الزمن ،لتوحي لكل جيلٍ من أجيال المسلمين ،أنَّ الإسلام هو الرسالة الّتي يجب عليه أن يحتضنها ويرعاها بكل قوّة وأن يستمر عليها بكل إخلاص ،وأنَّ عليه أن يعي جيداً دوره فلا يغتر أبداً بحجم هذا الدور بالمستوى الَّذي يُخيَّل إليه أنَّ الإسلام سوف يموت ويزول إذا ابتعدهوعن الساحة ،فإنَّ هناك أكثر من جيلٍ في علم الله ،ينتظر الفرصة الّتي ينتصر فيها للإسلام ،بعيداً عن كل زهوٍ وعظمةٍ وخيلاء .
وربَّما كان لنا أن نستوحي من هذه الآية ،كيف يجب أن تتركز التربية الإسلاميّة في علاقة القيادة بالقاعدة ،وبالعكس ،فلا مجال للفكرة الّتي تقول إنَّ غياب القيادة المعينة ،أو انحرافها ،أو ارتدادها ،يلغي الدور المستقبلي للإسلام ،لأنَّ هذه القيادة أو تلك ،تُمثِّل القاعدة الأساسيّة الّتي يرتكز عليها الإسلام ،ولا مجالأيضاًللفكرة المماثلة الّتي قد تعتبر اهتزاز القاعدة وضياعها وارتدادها كفيلاً باهتزاز الإسلام وسقوطه ،لأنَّ الله سبحانه هو الَّذي يكفل مسيرة هذا الدين ،ويخلق لهفي كل زمنأناساً مخلصين{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ،ليعرف كل إنسان وكل جيل حجمه الطبيعي أمام الله وأمام رسالته ،{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} .