وبعد أن حذر- سبحانه- المؤمنين من ولاية اليهود والنصارى ،عقب ذلك بنداء آخر وجهه إليهم ،وبين لهم فيه أن موالاة أعداء الله قد تجر إلى الارتداد عن الدين ،وأنهم إن ارتدوا ؛فسوف يأتي الله بقوم آخرين لن يكونوا مثلهم ،وأن من الواجب عليهم أن يجعلوا ولايتهم لله ولرسوله وللمؤمنين ...فقال تعالى: 54- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ...} الآية
المفردات:
يرتد: يرجع عما هو عليه .
أذلة: جمع ذليل ،لين رحيم ،متواضع لا بمعنى مهين .أي: رحماء متواضعين .
أعزة: أقوياء أشداء .
لومة: المرة من اللوم ،ولامه: كدره بالكلام؛ لإتيانه مالا ينبغي .
التفسير:
54- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ...الآية .من يرجع منكم عن دين الإسلام إلى الكفر وإنكار ما جاء به الإسلام من تكاليف .
فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ . بأناس آخرين
يُحِبُّهُمْ .يرضى عنهم إذا هداهم إلى خيري الدنيا والآخرة .
وَيُحِبُّونَهُ .ويحرصون على طاعته وينصرون دينه .
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ .أي: يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين ،ويظهرون الغلظة والشدة والترفع على الكافرين .
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ .يجمعون بين المجاهد في سبيل الله ،وعدم خوف الملامة في الدين ،بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان ،من الأزدراء بأهل الدين ،وقلب محاسنهم مساوئ ،ومناقبهم مثالب ؛حسدا وبغضا وكراهية للحق وأهله{[266]} .
ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .أي: ما تقدم من الأوصاف العظيمة ،والفضائل الجليلة من محبة الله لهم ،ومحبتهم لله تعالى ،وحنوهم على المؤمنين ،والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله- دون خشية أحد- إنما هو لطف الله وإحسانه ،يتفضل بمنحه من يشاء من عباده ، وذلك بتوفيقه للعمل على تحصيله والحرص على التحلي به .
وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .كامل القدرة ،كثيرالأفضال ،كامل العلم ،محيط بكل شيء وقد تحدثت الآية عمن يرتدون قبل أن يقع ردتهم ،فكان ذلك إخبارا عن مغيبات ،وكان معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم ،وإعجازا للقرآن الكريم ،وقد ارتد من العرب في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق:
1- بنو مدلج: تحت رياسة الأسود العنسي تنبأ باليمن ،ثم فيروز الديلمي .
2- بنو حنيفة: أصحاب مسيلمة الكذاب وقد قتل في حروب الردة .
3- بنو أسد: قوم طلحة بن خويلد وقد هزم وهرب إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه .
وقد قيض الله أبا بدر الصديق فجهز الجيوش لقتال المرتدين ،واستطاع القضاء على هذه الفتنة ،وضم المسلمين بعد أن كادوا يتفرقون وقد اختلف المفسرون في المراد بهؤلاء القوم الذين يأتي الله بهم ،فقال بعضهم: أبو بكر الصديق ومن معه من المؤمنين .
وقال بعضهم: المراد بهم الأنصار .
وقال مجاهد: أهل اليمن .
وقال آخرين: كل من تنطبق عليه هذه الصفات الجليلة: فكل من أحب الله وأحبه الله ،وتواضع للمؤمنين وأغلظ على الكافرين وجاهد في سبيل الله دون أن يخشى أحدا سواه فهو منهم .