قوله:{والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم} التبوؤ معناه النزول .أي والذين سكنوا المدينة واتخذوها لهم منازل{والإيمان} منصوب بفعل مقدر .أي وقبلوا الإيمان{[4500]} وأخلصوا لله دينهم وإيمانهم .والمراد بهم الأنصار ،فهم الذين استوطنوا المدينة من قبل أن يهاجر إليها المؤمنون من أهل مكة .ثم وصف الله هؤلاء الأنصار بصفات مميزة ثلاث على سبيل الإطراء لهم والثناء عليهم بما هم أهله من الصدق والبر والسخاء وبذل العون والمساعدة لإخوانهم المهاجرين فقال:{يحبون من هاجر إليهم} أي أن الأنصار يحبون الذين أتوهم مهاجرين من مكة وقد تركوا وراءهم المال والأهل والوطن .فهم يحبونهم حبا خالصا لوجه الله وذلكم هو الحب الكريم الذي يخالج قلوب المؤمنين الصادقين وهم يحب بعضهم بعضا في الله .
وقال:{ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} يعني لا يجد الأنصار وهم الذين نزلوا المدينة من قبل المهاجرين شيئا من الحسد في قلوبهم مما أعطي المهاجرون من الفيء ،ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الفيء بين المهاجرين دون غيرهم من الأنصار باستثناء اثنين أعطاهما لفقرهما ،وقيل: باستثناء ثلاثة .
وقال:{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان ربهم خصاصة} الخصاصة والخصاص بمعنى الفقر{[4501]} ،أي يقدمون الفقراء والمحاويج على حاجة أنفسهم{ولو كان بهم خصاصة} يعني ولو كان بهم حاجة أو فاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم .وقد روى الترميذي عن أبي هريرة: أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته: نوّمي الصّبية وأطفئي السراج وقرّبي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} .وروي عن أبي هريرة أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى رجل من الأنصار رجلا من أهل الصّفّة فذهب به الأنصاري إلى أهله فقال للمرأة: هل من شيء ؟قالت: لا ،إلا قوت الصبية .قال: فنوّميهم ،فإذا ناموا فأتيني فإذا وضعت فاطفيء السراج ،ففعلت ،وجعل الأنصاري يقدم إلى ضيفه ما بين يديه ،ثم غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لقد عجب من فعالكما أهل السماء "ونزلت الآية{[4502]} .
تلك هي شيمة الإيثار المرغوب التي تتجلى في خلق المؤمنين الأتقياء الصادقين الذين أخلصوا دينهم لله وحده فغشي قلوبهم من برد اليقين ما كانوا به أوفياء مخلصين أبرار .إن هذه الفضلية الكريمة ،فضيلة الإيثار على النفس إنما تتجلى في خلق المسلمين الغيورين من الطيبين .أولئك الذين صنعهم الإسلام بعقيدته الراسخة السمحة ،وتشريعه الوارف المبارك .
إن ذلكم هو الإسلام العظيم الذي يصنع الإنسان الصالح الرفّاف ويخلق الحياة الكريمة الطاهرة الفضلى .
قوله:{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} يوق ،من الوقاية والشح ،في اللغة بمعنى البخل من حرص{[4503]} .على أن المراد بالشح ههنا في قول العلماء أنه أكل أموال الناس بغير حق .قال ابن مسعود: الشح أن تأكل مال أخيك ظلما أو بغير حقه .وقيل: معناه الظلم .وقيل: ترك الفرائض وانتهاك المحارم .والأظهر من الآية أن المراد بالشح: الضّنّ بالخير وعدم أدائه في وجوهه كالزكاة والصدقة وقرى الضيف وغير ذلك من وجوه الأداء والبذل فيما ينفع الناس أو يدفع عنهم الكروب والحوائج .وفي الخبر عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"برئ من الشح من أدى الزكاة ،وقرى الضيف ،وأعطى في النائبة ": وفي التنديد بالشح روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والظلم ،فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ،واتقوا الشح ،فإن الشح أهلك من كان قبلكم ،حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم "وروى عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الظلم ،فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ،واتقوا الفحش ،فإن الله لا يحب الفحش ،وإياكم والشح ،فإنه أهلك من كان قبلكم ،أمرهم بالظلم فظلموا ،وأمرهم بالفجور ففجروا ،وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ".
قوله:{فأولئك هم المفلحون} وهم الذين تبرأوا من ذميمة الشح فغلبوا ما أمرتهم به أنفسهم وخالفوا هواهم بإذن الله وتوفيقه فأولئك هم الظافرون الفائزون .