وفي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
وصف شامل للأنصار ،{تبوءوا الدار}: أي المدينة ،{والإيمان من قبلهم}: أي بيعة العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء المهاجرين ،بل ومن قبل إيمان بعض المهاجرين{يحبون من هاجر إليهم} ويستقبلونه بصدور رحبة ،{ويؤثرون} غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ،لأنهم هاجروا إليهم .
/خ9
وفي قوله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [ الحشر: 9] .
الإيثار على النفس: تقديم الغير عليها مع الحاجة ،والخصاصة: التي تختل بها الحال ،وأصلها من الاختصاص ،وهو الانفراد في الأمر .فالخصاصة الانفراد بالحاجة أي ولو كان بهم فاقة وحاجة .ومنه قول الشاعر:
أما الربيع إذا تكون خصاصة*** عاش السقيم به وأثرى المقتر
وهل يصح الإيثار من كل إنسان ولو كان ذا عيال أو تلزمه نفقة غيره أم لا ؟وما علاقته مع قوله:{وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [ البقرة: 219] ؟.
والجواب على هذا كله في كلام الشيخ رحمه الله على قوله تعالى:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} في أول سورة البقرة .
قال رحمه الله:قوله تعالى:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ،عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ما له كله ،ولم يبين هنا القدر الَّذي ينبغي إنفاقه ،والذي ينبغي إمساكه ،ولكنه بين في مواضع أخرى أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة ،وسد الخلَّة التي لا بد منها ،وذلك كقوله:{وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ،والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات ،وهو مذهب الجمهور ومنه قوله تعالى:{حَتَّى عَفَواْ} أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم .
وقال بعض العلماء: العفو نقيض الجهد ،وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع .
ومنه قول الشاعر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي *** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب.
وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا ،وبقية الأقوال ضعيفة ،وقوله تعالى:{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [ الإسراء: 29] ،فنهاه عن البخل بقوله:{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ،ونهاه عن الإسراف بقوله:{وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ،فيتعين الوسط بين الأمرين ،كما بينه بقوله:{وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [ الفرقان: 27] .
فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير وبين البخل والإقتار ،فالجود غير التبذير ،والاقتصاد غير البخل فالمنع في محل الإعطاء مذموم ،وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:{ولا تجعَلْ يَدكَ مَغلولةً إلى عُنُقك} ،والإعطاء في محل المنع مذموم أيضاً ،وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:"ولا تبسطها كل البسط ".
وقد قال الشاعر:
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت *** يداه كالمزن حتى تخجل الديما
فإنها خطرات من وساوسه *** يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما
وقد بين تعالى في مواضع أخرى ،أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي الله كقوله تعالى:{قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} [ البقرة: 215] الآية ،وصرح في أن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله:{فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [ الأنفال: 36] .
وقد قال الشاعر:
إن الصنيعة لا تعد صنيعة *** حتى يصاب بها طريق المصنع
فإن قيل: هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد عن الحاجة الضرورية ،مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا ،وذلك في قوله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ الحشر: 9] .
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم: هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً ،ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعاً ،وذلك كما إذا كانت على المنفق واجبة كنفقة الزوجات ونحوها ،فتبرع بالإنفاق في غير واجب ،وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم"وابدأ بمن تعول "،وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ،ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم ،فلا يجوز له ذلك ؟والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة ،وكان واثقاً من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال .
وأما على القول بأن قوله تعالى:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [ البقرة: 3] يعني به الزكاة ،فالأمر واضح ،والعلم عند الله تعالى .انتهى منه .
والواقع أن للإنفاق في القرآن مراتب ثلاثة:
الأولى: الإنفاق من بعض المال بصفة عامة ،كما في قوله تعالى:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} .
الثانية: الإنفاق مما يحبه الإنسان ويحرص عليه ،كما في قوله تعالى{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [ البقرة: 177] ،وهذا أخص من الأول ،وقوله:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [ الإنسان: 8] الآية .
الثالثة: الإنفاق مع الإيثار على النفس كهذه الآية{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [ الحشر: 9] فهي أخص من الخاص الأول .
وتعتبر المرتبة الأولى هي الحد الأدنى في الواجب ،حتى قيل: إن المراد بها الزكاة .وهي تشمل النافلة ،وتصدق على أدنى شيء ولو شق تمرة ،وتدخل في قوله تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [ الزلزلة: 7] ،وتعتبر المرتبة الثالثة هي الحد الأقصى ،لأنها إيثار للغير على خاصة النفس ،والمرتبة الثانية هي الوسطى بينهما ،وهي الحد الوسط بين الاكتفاء بأقل الواجب ،وبين الإيثار على النفس وهي ميزان التوسط لعامة الناس ،كما بينه تعالى بقوله:{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [ الإسراء: 29] .
وكما امتدح الله تعالى قوماً بالاعتدال في قوله:{وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [ الفرقان: 67]
وهذا هو عين تطبيق قاعدة الفلسفة الأخلاقية القائلة:"الفضيلة وسط بين طرفين "أي طرفي الإفراط والتفريط .فالشجاعة مثلاً وسط بين التهور والجبن ، والكرم وسط بين التبذير والتقتير .
والإنفاق جوانب متعددة ،وأحكام متفاوتة ،قد بين الشيخ رحمه الله جانباً من الأحكام ،وقد بين القرآن الجوانب الأخرى ،وتنحصر في الآتي: نوع ما يقع منه الإنفاق ،الجهة المنفق عليها ،موقف المنفق ،وصورة الإنفاق .
أما ما يقع منه الإنفاق: قد بينه تعالى أولاً من كسب حلال لقوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ إلا رْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [ البقرة: 267] .
وقوله تعالى:{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} .
أما الجهة المنفق عليها: فكما في قوله تعالى:{يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [ البقرة: 215] فبدأ بالوالدين براً لهما ،وثنَّى بالأقربين .
وقال صلى الله عليه وسلم:"الصدقة على القريب صدقة وصلة ،وعلى البعيد صدقة "ثم اليتامى وهذا واجب إنساني وتكافل اجتماعي ،لأن يتيم اليوم منفق الغد ،وولد الأبوين اليوم قد يكون يتيماً غداً ،أي أن من أحسن إلى اليتيم اليوم قد يترك أيتاماً ،فيحسن عليهم ذلك اليتيم الذي أحسنت إليه بالأمس ،والمساكين وابن السبيل أمور عامة .
وجاء بالقاعدة العامة التي يحاسب الله تعالى عليها ويجازي صاحبها{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} [ البقرة: 215] أي مطلقاً{فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [ البقرة: 215] ،وكفى في ذلك علمه تعالى .
أما موقف المنفق وصورة الإنفاق: فإن هذا هو سر النفقة في الإسلام ،وفلسفة الإنفاق كلها تظهر في هذا الجانب ،مما تميز به الإسلام دون غيره من جميع الأديان أو النظم .
لأنه يركز على الحفاظ على شعور وإحساس المسكين ،بحيث لا يشعره بجرح المسكنة ،ولا ذلة الفاقة كما في قوله تعالى:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواْ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [ البقرة: 262] .
ثم فاضل بين الكلمة الطيبة والصدقة المؤذية في قوله تعالى:{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ} [ البقرة: 263] يعطي ولا يمن بالعطاء .
وأفهم المنفقين أن المنّ والأذى يبطل الصدقة{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [ البقرة: 264] لما فيه من جرح شعور المسكين .
وقد حثَّ على إخفائها إمعاناً في الحفاظ على شعوره وإحساسه{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} أي مع الآداب السابقة{وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [ البقرة: 271] أي لكم أنتم في حفظ ثوابها .
وقد جعل صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله"رجل تصدق بصدقة فأخفاها ،حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه "،وكما قال تعالى:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [ البقرة: 274] .
ومن خصائص الإسلام في هذا الباب أنه كما أدب الأغنياء في طريقة الإنفاق ،فقد أدب الفقراء في طريقة الأخذ .وذلك في قوله تعالى:{لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْألُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [ البقرة: 273] .