ثم قال تعالى مادحا للأنصار ، ومبينا فضلهم ، وشرفهم ، وكرمهم ، وعدم حسدهم ، وإيثارهم مع الحاجة ، فقال:( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ) أي:سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم .
قال عمر:وأوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم كرامتهم . وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو عن مسيئهم . رواه البخاري ها هنا أيضا .
وقوله:( يحبون من هاجر إليهم ) أي:من كرمهم وشرف أنفسهم ، يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم .
قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد ، حدثنا حميد ، عن أنس ، قال:قال المهاجرون:يا رسول الله ، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ، ولا أحسن بذلا في كثير ، لقد كفونا المؤنة ، وأشركونا في المهنإ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ! قال:"لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم ".
لم أره في الكتب من هذا الوجه .
وقال البخاري:حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال:دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار أن يقطع لهم البحرين ، قالوا:لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها . قال:"إما لا فاصبروا حتى تلقوني ، فإنه سيصيبكم بعدي أثرة ".
تفرد به البخاري من هذا الوجه
قال البخاري:حدثنا الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال:قالت الأنصار:اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل . قال:لا . فقالوا:تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة ؟ قالوا:سمعنا وأطعنا . تفرد به دون مسلم .
( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) أي:ولا يجدون في أنفسهم حسدا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف ، والتقديم في الذكر والرتبة .
قال:الحسن البصري:( ولا يجدون في صدورهم حاجة ) يعني:الحسد .
( مما أوتوا ) قال قتادة:يعني فيما أعطى إخوانهم . وكذا قال ابن زيد . ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال:حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن أنس قال:كنا جلوسا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:"يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة ". فطلع رجل من الأنصار تنظف لحيته من وضوئه ، قد تعلق نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى . فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل مقالته أيضا ، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال:إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت . قال:نعم . قال أنس:فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئا ، غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ، ذكر الله وكبر ، حتى يقوم لصلاة الفجر . قال عبد الله:غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا ، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله ، قلت:يا عبد الله ، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرار:يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة ". فطلعت أنت الثلاث المرار فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به ، فلم أرك تعمل كثير عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال:ما هو إلا ما رأيت . فلما وليت دعاني فقال:ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه . قال عبد الله:هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا تطاق .
ورواه النسائي في اليوم والليلة ، عن سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن معمر به ، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ، لكن رواه عقيل ، وغيره ، عن الزهري ، عن رجل ، عن أنس . فالله أعلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله:( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) يعني ( مما أوتوا ) المهاجرون . قال:وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار ، فعاتبهم الله في ذلك ، فقال:( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ) قال:وقال رسول الله:"إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم ". فقالوا:أموالنا بيننا قطائع . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أو غير ذلك ؟ ". قالوا:وما ذاك يا رسول الله ؟ قال:"هم قوم لا يعرفون العمل ، فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر ". فقالوا:نعم يا رسول الله
وقوله:( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) يعني:حاجة ، أي:يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك .
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"أفضل الصدقة جهد المقل ". وهذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله بقوله:( ويطعمون الطعام على حبه ) [ الإنسان:8] . وقوله:( وآتى المال على حبه ) [ البقرة:177] .
فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به ، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به ، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه . ومن هذا المقام تصدق الصديق رضي الله عنه ، بجميع ماله ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما أبقيت لأهلك ؟ ". فقال:أبقيت لهم الله ورسوله . وهذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك ، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه ، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء ، فرده الآخر إلى الثالث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم .
وقال البخاري:حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا فضيل بن غزوان ، حدثنا أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هريرة قال:أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:يا رسول الله ، أصابني الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"ألا رجل يضيف هذا الليلة ، رحمه الله ؟ ". فقام رجل من الأنصار فقال:أنا يا رسول الله . فذهب إلى أهله فقال لامرأته:ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تدخريه شيئا . فقالت:والله ما عندي إلا قوت الصبية . قال:فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة . ففعلت ، ثم غدا الرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:"لقد عجب الله - عز وجل - أو:ضحك من فلان وفلانة ". وأنزل الله عز وجل:( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) .
وكذا رواه البخاري في موضع آخر ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن فضيل بن غزوان به نحوه . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة ، رضي الله عنه .
وقوله:( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) أي:من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح .
قال أحمد:حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا داود بن قيس الفراء ، عن عبيد الله بن مقسم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ".
انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن القعنبي ، عن داود بن قيس به . .
وقال الأعمش ، وشعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن زهير بن الأقمر ، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"اتقوا الظلم ; فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفحش ، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، وإياكم والشح ; فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ".
ورواه أحمد ، وأبو داود من طريق شعبة ، والنسائي من طريق الأعمش كلاهما عن عمرو بن مرة به .
وقال الليث عن يزيد بن الهاد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن صفوان بن أبي يزيد ، عن القعقاع بن اللجلاج ، عن أبي هريرة ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا ".
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا المسعودي ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال قال:جاء رجل إلى عبد الله فقال:يا أبا عبد الرحمن ، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله:وما ذاك ؟ قال:سمعت الله يقول:( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) وأنا رجل شحيح ، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا ! فقال عبد الله:ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل "
وقال سفيان الثوري ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال:كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول:اللهم قني شح نفسي ". لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال:إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل "، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، رواه ابن جرير
وقال ابن جرير:حدثني محمد بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"بريء من الشح من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى في النائبة ".