{بَيِّنَةٍ}: البينة: الحجة الفاصلة بين الحق والباطل .
مثل الفريقين المؤمن والكافر ..هل يستويان ؟
في أجواء هذه الآيات ،نلتقي بالساحة التي تتحرك فيها الدعوة بين الذين يتحركون إيجابياً في خط الإيمان والطاعة والانفتاح على الله ،وبين الذين ينطلقون سلبياً في خط الكفر والتمرّد والتكذيب والصدّ عن سبيل الله ،ثم نواجه النتائج الحاسمة في يوم القيامة ،فإذا بالفريق الأول يعيش في رضى الله ورحمته ليخلد في الجنة ،أما الفريق الثاني ،فيعيش الخسارة الكبرى ،والضياع والعذاب الأليم ...وذلك في ظل أجواء مليئة بالحركة تحتوي الحاضر والمستقبل ،للإيحاء بارتباط الجانب العملي بالجانب العقيدي ،وامتداد أجواء الحياة الدنيا في خط الانحراف والاستقامة ،إلى الحياة الآخرى ،في خط الثواب والعقاب .
وضوح الإيمان
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} في ما هيّأ الله له من وسائل المعرفة ،بحيث يملك وضوح الرؤية في العقيدة التي تجعل إيمانه يصدر عن قناعة وثبات ،{وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي ويتبعه شاهد يشهد له ،على صحة ذلك ،بالمستوى الذي لا يترك هناك مجالاً للشك ،كأيّة قضيّة من القضايا التي تتأكد لدى المؤمنين من خلال الدلائل البيّنة ،والشهود الموثّقين .وقد اختلف المفسرون في شخصية هذا الذي كان على بيّنة من ربه ،هل هو رسول الله ،أو المؤمنون الذين كانوا معه ،أو جميع المؤمنين ؟واختلفوا كذلك في طبيعة هذه البينة ،هل هي القرآن ،أو العقل والوجدان ،أو شيءٌ آخر غير ذلك ؟وكذلك في شخصية الشاهد هل هو القرآن ،أو جبرئيل ،أو الإمام عليّ ،أو غير ذلك من الاحتمالات ؟
لقد تعددت الروايات حول هذه المسألة بالشكل الذي لا يمكن الركون إليها لخلل في سند بعضها ،وارتباك في مضمون بعضها الآخر ،ولا نجد في هذا المجال أوثق من عدم الخوض في ذلك ،لأن التفسير لا يختلف كثيراً في المعنى الأساس الذي تستهدفه الآية ،فقد يكفينا من المعرفة بذلك أن نفهم من الآية المقارنة ،بين من كان يعيش وضوح قضية الإيمان لديه ،مما هداه الله إليه بشكلٍ قاطعٍ ،فهو لا يحتاج إلى شيٍء آخر في زيادة المعرفة ،ويتبعه شاهد منه يؤكد هذه الحقيقة للاخرين ،سواءً كان هذا الشاهد رجلاً يملك المعرفة الكاملة للمسألة ،أم كتاباً يشهد على صحة هذا الإيمان وصدقه أمام الآخرين ،وبين من كان لا يعيش وضوح ذلك ،لأنه لا يريد الاهتداء ،ولا يخضع له ،وقد نجد في كثير من الاحتمالات المذكورة في هذا المجال ما لا يتناسب مع سياق الآية .فلنجمل ما أجمله الله ،ولنطلب الوضوح في ما أراده لنا من قواعده ،ولنرجع علم ما أبهم علينا أمره إليه .
الله يؤاخي بين الرسالات
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً} في ما تمثله التوراة من قاعدة للفكر وللتشريع ،أراد الله للناس أن يتمثلوها فكراً وعملاً خلال حياتهم في الفترة التي سبقت نبوّة النبي محمد( ص ) ،وقد أبقى الله من مفاهيمها وأحكامها في مضمون رسالته ،لأن التوراة كانتكما يبدوأوّل كتاب سماويّ شاملٍ أنزله الله على رسله ،بحيث غدا إماماً لبقيّة الكتب ،لأن الله أراد أن يؤاخي بين رسالاته وكتبه في الأسس الثابتة من العقيدة والتشريع ،وجعل من كل رسول امتداداً للرسول الذي سبقه ،ومن كل كتاب مصدّقاً للكتاب الذي جاء بعده ،أو قبله ،بما يتضمّنه من وحي ينظم أمر العباد ،ويهديهم به إلى سواء السبيل .وربّما كان ذكر كتاب موسى ،في هذا السياق ،باعتباره مؤكّداً للإيمان في كثير من تفاصيله التي تصدّق هذا الكتاب في المبدأ والتفاصيل .
{أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بالكتابوهو القرآنالمستفاد من سياق الآية ،لأنهم يملكون البيّنة على هذا الإيمان .{وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ} المتمثلة في جماعات الكفر والشرك والضلال ،{فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} ،لأنه لا يملك الحجة على ما يعتقده من كفره وضلاله ،في ما يملك الله الحجة البالغة عليه{فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ} أي في شك{مِّنْهُ} أي من هذا الكتاب الذي أنزله الله عليك ،مهما أثاروا حولك من تهاويل الشك ،لأن ما تملكه من البيّنة الداخليّة والخارجيّة لا يمكن أن يقترب إليه الشكّ ،{إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،فلا مجال للريب فيه من أيّ طريق ،{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} لأنهم لا ينفتحون على المعرفة بمسؤولية ،بل ينطلقون معها من خلال المزاج والشهوة والإحساس ،ولذلك فإنهم يعيشون أجواء اللامبالاة أمام الكثير مما يطرح عليهم من دعوات وقضايا تتصل بالمصير ،وتدفع بالإنسان إلى أن يعيش الجهد والمعاناة والالتزام بالخط المستقيم ،انسجاماً مع المسؤولية الشاملة للإنسان أمام الله .