التّفسير
هناك أقوال كثيرةفي تفسير الآية أعلاهبين المفسّرين ،ولهم نظرات مختلفة في جزئيات الآية وكلماتها وضمائرها والأسماء الموصولة فيها وأسماء الإِشارة ،وما نُقلَ عنهم يخالف طريقتنا في هذا التّفسير ،ولكنّ تفسيرين منها أشد وضوحاً من غيرهما ننقلهما هنا على حسب الأهميّة:
1في بداية الآية يقول الحق سبحانه:
( أفمن كان على بينة من ربّه ويتلوه شاهد منه ) أي من الله تعالى ( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ...) .أي التوراة التي تويّد صدقه وعظمته ،مثل هذا الشخص هل يستوي ومن لا يتمتع بهذه الخصال والدلائل البينة .
هذا الشخص هو النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،«البيّنة » ودليله الواضح هو القرآن المجيد ،والشاهد المصدق بنبوّتهِ كلّ مؤمن حق أمثال علي( عليه السلام ) ،ومن قَبلُ وردتْ صفاته وعلائمه في التوراة ،فعلى هذا ثبتت دعوته عن طرق ثلاثة حقّة واضحة .
الأوّل: القرآن الكريم الذي هو بيّنة ودليل واضح في يده .
الثّاني: الكتب السماوية التي سبقت نبوّته وأشارت إلى صفاته بدقّة ،وأتباع هذه الكتب السماوية في عصر النّبي كانوا يعرفونه حقاً ،ولهذا السبب كانوا ينتظرونه .
والثّالث: أتباعه وأنصاره المؤمنون المضحّون الذين كانوا يبيّنون دعوته ويتحدثون عنه ،لأن واحداً من علائم حقانيّة مذهب ما هو إخلاص اتباعه وتضحيتهم ودرايتهم وإيمانهم وعقلهم ،إذ أن كلّ مذهب يُعرف بأتباعه وأنصاره .
ومع وجود هذه الدلائل الحيّة ،هل يمكن أن يقاس مع غيره من المدعين ،أم هل ينبغي التردّد في صدق دعوته ؟!{[1766]} .
ثمّ يشير بعد هذا الكلام إلى طلاب الحقّ والباحثين عن الحقيقة ،يدعوهم إلى الإيمان دعوة ضمنية فيقول: ( أُولئك يؤمنون به ) أي النّبي الذي لديه هذه الدلائل الواضحة .
وبالرغم من أنّ مثل هؤلاء الذين اُشير إليهم بكلمة «أُولئك » في الآية لم يذكروا في الآية نفسها ،ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يمكن استحضارهم في جوّ هذه الآية والإشارة إليهم .
ثمّ يعقب بعد ذلك ببيان عاقبة المنكرين ومصيرهم بقوله تعالى: ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنّار موعده ) .
وفي ختام الآيةكما هي الحال في كثير من آيات القرآنيوجه الخطاب إلى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويبيّن درساً عاماً لجميع الناس ،ويقول: بعدَ هذا كلّه من وجود الشاهد والبيّنة والمصدق بدعوتك ،فلا تتردد في الطريق ذاته ( فلا تك في مرية منه )لأنّه من قبل الله سبحانه ( إِنّه الحقّ من ربّك ) ولكن كثيراً من الناس ونتيجةً لجهلهم وأنانيتهم لا يؤمنون ( ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .
2التّفسير الثّاني لهذه الآية هو أنّ هدفها الأصل بيان حال المؤمنين الصادقين الذين يؤمنون بالنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع وجود الدلائل الواضحة والشواهد على صدق دعوة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما جاء في الكتب السماوية السابقة في شأنه ،فأُولئك هم المؤمنون ،واستناداً إلى هذه الدلائل جميعاً يؤمنون به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فعلى هذا يكون المقصود من قوله: ( أفمن كان على بيّنة من ربّه ) جميع الذين لديهم دلائل مقنعة ،حيث سارعوا إلى الإِيمان بالقرآن ومن جاء به ،وليس المقصود بكلمة «مَن » في الآية هو النّبي .
والذي يرجح هذا التّفسير على التّفسير السابق هو وجود الخبر في الآية صريحاً وليس محذوفاً ،والمشار إِليه «أُولئك » مذكور في الآية نفسها ،والقسم الأوّل من الآية يبدأ بقوله: ( أفمن كان على بيّنة من ربّه ) إلى قوله: ( أُولئك يؤمنون به ) ويشكل جملة كاملة من دون أي حذف وتقدير ..ولكن من دون شك فإِنّ التعبيرات الأُخرى في هذه الآية لا تنسجم مع هذا التّفسير كثيراً ،ولهذا جعلنا هذا التفسير في المرحلة الثّانية «فتأمل » !
وعلى كل حال ،فالآية تشير إلى امتيازات الإِسلام والمسلمين الصادقين واستنادهم إلى الدلائل المحكمة في اختيار مذهبهم هذا ..وفي قبال ذلك تذكر ما يصير إِليه المنكرون والمستكبرون من مآل مشؤوم أيضاً ..
بحوث
1ما المقصود «بالشاهد » في الآية ؟!
قال بعض المفسّرين: إِن المقصود بالشاهد هو جبرئيل( عليه السلام )أمين وحي الله ،ومنهم من فسّره بالنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ومنهم من قال: إِنّ معناه لسان النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حالة فهم معنى «يتلو » من التلاوة أي القراءة ،لا بمعنى التلّو الذي معناه مجيء شخص بعد آخر .
ولكن كثيراً من كبار المفسّرين فسروا «شاهد » بالإِمام علي( عليه السلام ) ،ففي روايات كثيرة وصلتنا عن الأئمّة المعصومين ،وفي بعض كتب تفسير أهل السنةأيضاًهناك تأكيد على أنّ المقصود من «الشاهد » في الآية هو الإِمام علي( عليه السلام ) أوّل من آمن بالنّبي والقرآن الكريم ،وكان معه في جميع المراحل ولم يقصر لحظةً في التضحية دونه وحمايته إلى آخر نفس{[1767]} .
وفي حديث منقول عن الإِمام علي( عليه السلام ) أنّه قال: «ما من رجل من قريش إلاّ وقد أنزل فيه آية أو آيتان من كتاب اللّه ،فقال له رجل من القوم: ومإذا أنزل فيك يا أمير المؤمنين ؟فقال: أما تقراً الآية التي في هود ( أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه ) محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) على بيّنة من ربّه وكنت أنا الشاهد »{[1768]} .
وفي آخر سورة الرعد عبارة تؤيد هذا المعنى ،حيث يقول سبحانه: ( ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) .
هناك روايات كثيرة عن طرق الشيعة وأهل السنة تبيّن أنّ المراد بقوله: ( ومن عنده علم الكتاب ) هو الإِمام علي( عليه السلام ) .
وممّا يجدر ذكرهكما أشرنا سابقاًأن واحداً من أفضل طرق حقانية أيّ مذهب هو مطالعة شخصية أتباعه والمدافعين عنه وحماته .فحين نلاحظ جماعةًأتقياء ،أذكياء ،مؤمنين مخلصين اجتمعوا حول أحد القادة ،أو مذهب معين فسيتّضح جيداً أنّ هذا القائد وهذا المذهب على درجة عالية من الحق والصدق .
ولكن حين نرى جماعة انتهازيين محتالين غير مؤمنين ولا متقين تجمعوا حول مذهب مّا أو قائد مّا ،فقلّ أن نصدّق أن ذلك المذهب أو القائد على حق .
وينبغي الإِشارة إلى هذا الأمر ،وهو أنّه لا منافاة بين تفسير كلمة الشاهد بالإِمام علي ،وبين شمولها لجميع المؤمنين من أمثال أبي ذرّ وسلمان وعمّار واضرابهم ،لأنّ هذه التفاسير تشير إلى الشخص البارز والشاخص في هؤلاء المؤمنين ،أي إِنّ المقصود هو جماعة المؤمنين الذين في طليعتهم الإِمام علي( عليه السلام ) .
والدليل على هذا الكلام رواية منقولة عن الإِمام الباقر( عليه السلام ): قال: «الذي على بينّة من ربّه رسول الله الذي تلاه من بعده الشاهد منه أمير المؤمنين ثمّ أوصياؤه واحد بعد واحد »{[1769]} .
وعلى الرغم من أنّ هذه الرّواية تذكر المعصومين فحسب ،ولكنّها تدل على أن الرّوايات التي تفسر الشاهد بالإِمام علي لا تعني شخصه فحسب ،بل كونه مصداقاً وشاخصاً للمؤمنين !...
2لماذا أُشير إلى التوراة فحسب ؟!
إِن واحداً من دلائل حقانية النّبي كما ذُكر في الآية الآنفةالكتب السابقة على نبوة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ولكن لم تذكر الآية من بينها سوى التوراة ،ونحن نعرف أن الإِنجيل بشّر بظهور نبي الإِسلام أيضاً .
ويمكن أن يكون السبب هو أنّ المحيط الذي نزل فيه القرآن وظهر الإِسلام فيه ( أي مكّة والمدينة ) متشبعاً بأفكار اليهود أكثر من غيرهم من أهل الكتاب ،وكان المسيحيون يعيشون في أماكن أبعد من اليهود كاليمن والشامات ونجران والجبال الشمالية في اليمن التي تقع على فاصلة عشرة منازل من صنعاء !
أو لأن أوصاف النّبي وردت في التوراة بشكل أوسع وأجمع .
وعلى كل حال ،فالتعبير عن التوراة ب «إماماً » قد يكون لأجل أحكام شريعة موسى( عليه السلام ) كانت موجودة فيه بشكل أكمل ،حتى أنّ المسيحيين يرجعون إلى تعليمات التوراة !
3من هو المخاطب في قوله: ( فلا تك في مرية منه ) ؟
هناك احتمالان في من هو المخاطب بهذه الآية:
الاحتمال الأوّل: النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه ،أي: يا رسول الله لا تتردد في حقانيّة القرآن وشريعة الإِسلام أقلّ تردد !
وبالطبع فإِنّ النّبي بحكم كونه يدرك الوحي شهوداً ،ويدرك بالحواس أنّ القرآن نازل من قبل الله ،بل كان في درجة أعلى من الإِحساس ،فلم يكن لدية تردد في حقانية هذه الدعوة ،ولكن ليس هذه أوّل خطاب يوجه إلى النّبي ويكون المقصود به عموم الناس ،وكما يقول المثل العربي «إيّاك أعني واسمعي يا جارة » .
وهذا التعبير أساساً هو ضرب من البلاغة ،حيث يوضع المخاطب غير الحقيقي مكان المخاطب الحقيقي لأهميته ولأغراض أُخرى .
والاحتمال الثّاني: إِنّه المخاطب بهذه الآية كل مكلّف عاقل ،أي «فلا تك أيّها المكلف العاقل في مرية وتردد » .وهذا وارد إذا لم يكن المقصود بالآية ( أفمن كان على بيّنة من ربّه ) هو النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،بل جميع المؤمنين الصادقين ( فتدبّر ) .
ولكن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية