{سَخِرُواْ}: السخرية: إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل ،ومنه التسخير: التذليل .ويكون استضعافاً بالعقل .
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} ويستمر في صناعته بجدٍّ واجتهاد في الليل والنهار ،ولكن عمله ذاك كان محلّ استغراب ،لأن المنطقة التي يعيش فيها كانت فلاة لا وجود للماء فيها ،أو في المواقع القريبة منها ،بما يوحي أن عمله ذاك كان حالةً من العبث ،أو مظهراً لغياب العقل ،لذا كان موضع سخرية قومه:{وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} بما يحملونه من عقد خبيثة ضدّه ،تجعلهم يعملون على تدمير شخصيته ،وعلى إذلاله ،وبما يحمله حكمهم على الأشياء من سطحية وتسرع لا ينفذ إلى أعماق الأمور ،فلو فكروا بطريقة موضوعيّة ،لنظروا إلى تاريخ حياته الذي يكشف لهم عن قوّة فكره ،وسلامة نظره ،ولسألوه عن سرّ عمله الغامض في الظاهر ،باعتباره صادراً عن شخص يملك العقل الكامل ،والذهنية المتوازنة ليتمكنوا بعد استجماع كل عناصر الموضوع الحكم ،ولكنهم ينطلقون من موقع الرغبة في تحطيمه ،لا من موقع الرغبة في الفهم الصحيح للأمور .
ولكن الله أراد لنوح أن يردّ الأسلوب بمثله ،لأن الفكر إنما يكون لمن يحترمون الفكر ،والحوار ينشأ مع من يريدون الحوار ،أما من يريدون التحطيم والتدمير ،عن قصد وتصميم شرّير فلا بد من مواجهتهم بأسلوبهم ،لأن ذلك ما تقتضيه الحكمة في مواجهة الموقف بما يتطابق مع مقتضى الحال ،وهكذا أراد الله له أن يقول ،في ما ألهمه من وحي الحكمة:{قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} ،فذلك هو ردّ الفعل على الموقف ،ولكنه يختلف في دوافعه عما انطلقتم فيه ،فإذا كانت سخريتكم ناشئةً عن عقدة ،أو عن جهل لطبيعة العمل الذي أقوم به ،فإنا نسخر منكم من موقع اطلاعنا على النهاية السيئة التي ستنتهون إليها ،