{تَغِيضُ}:الغيض: ذهاب المائع في اتجاه العمق ،ويستعمل الغيض في النقصان ،وهو المراد هنا .
صفات الله من خلال عظمة الخلق وامتداده
كيف يتصور الإنسان الله ،وكيف يحاول الوصول إلى أجواء المعرفة وحدودها ؟هل يستغرق في ذات الله ليتعرف حقيقته وكنهه ؟أو ينصرف إلى صفاته التي تتجلّى في طبيعة الألوهية ومفهومها وفي عظمة الخلق وامتداده ؟
إن القرآن يدفعنا إلى النهج الثاني ،لأن الاستغراق في ذات الله لا يؤدي إلى أيّة نتيجةٍ في حساب المعرفة ،لأنهسبحانهلا يخضع في وجوده للحس ليعرفه الناظرون واللامسون ،بل هو فوق الحسّ كله ،يحيط بالأشياء ولا يحيط به شيء ،فلا مجال لتحديد حقيقته ،لأنها لا حدود لها ،ولا مجال لمعرفتها لأنه لا سبيل إليها .فلا بد من أن نعرف الله في آثار خلقه ،ومظاهر عظمته ،ومواقع نعمته ،وهذا ما أرادت هذه الآيات أن تثيره في وعي الإنسان ووجدانه من تصور للألوهيّة في اعتقاد الإنسان بالله .
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى} فهو الذي أبدع سرّ الخلق في وجود الإنسان في أحشاء أمه ،ومن البديهي أن يحيط علماً بكل شيء يتصل بمن خلق ،فهو اللطيف الخبير .
{وَمَا تَغِيضُ الأرحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} لعل المراد بما تغيض الأرحام: ما تنقصه فلا يعود شيئاً ،وهو السقط الذي يقلّ حمله عن ستة أشهر ،فيسقط قبل أن يكتمل نموه ،والمقصود ب«ما تزداد »: ما يولد لأكثر من تسعة أشهر ،ويرى صاحب الميزان: أن الأنسب للمعنى اللغويالذي ذكره الراغب في المفردات ،من أن كلمة{تَغِيضُ الأرْحَامُ} أي تفسده الأرحام ،فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرضأن يكون المراد به دم الحيض الذي ينصبُّ فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين ،وما تزداده هو الدم التي تدفعها إلى خارج كدم النفاس والدم أو الحمرة التي تراها في أيام الحمل أحياناً .
وقد يستظهر القارىء ،من خلال الجوّ السياقيّ للآية ،أن التعبير واردٌ على سبيل الكناية في طبيعة أوضاع الحمل في رحم الأنثى ،مما قد يسقط ،فلا يبقى له أثر في الرحم ،كالماء الذي لا يبقى له أثر في الأرض ،فينقص ،لأنه لم يضف إلى الوجود شيئاً ،أو أنه وُجد ،ثم زال .أما ما يزداد فهو الذي يستقر ويبقى أو يتكاثر ،فليس الحديث عن شيء آخر تحمله الأنثى بل هو تفصيل له ،والله العالم .
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} حيث تضع الحكمة الإلهية للأشياء حدوداً على مستوى الكمّ والنوع والشكل والجوّ الذي يحيط بها ،تبعاً لحاجات النظام الكونيّ إلى بلوغ غايته في حركة الحياة ،فلا مجال للعبث أو للفوضى أن تبعد الأشياء عن الخضوع لقاعدة تحكمها ،أو لقانون يسيطر عليها .فقد جعل الله للكون قوانينه ونظمه التي تحدّد للأشياء مسارها ،وللإنسان نظامه ،وهذا ما جعل العلماء ،في كل دراستهم للظواهر الكونية ،ينطلقون من قاعدة مسلّمةٍ ،وهي: أن لكل واحدة منها سرّاً خفيّاً ،ونظاماً متقناً ،قد لا يدركه الباحث في البداية لغموضه ،ولكنه يصل إليه ،من قريبٍ أو من بعيد ،عندما يتحرك نحوه من موقع البحث والتحليل والتأمّل .