{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ،فقد كان مصدر هذا الكتاب المعجز الذي تحدّاهم به ،في أسلوبه وفي مضمونه يحيرهم ؛كيف جاء به محمد ،وهو من عاش معهم ولم يتعلم القراءة والكتابة ،ولم يأخذ بقسط وافر من الثقافة تمكنه من هذا الإبداع ذاتياً ،كما أنهم لا يريدون الاعتراف له بالنبوّة التي تلتقي بالوحي كتفسير لكل هذه الآيات التي أعجزت البشر ،لذا أبعدوا عن أذهانهم احتمال أن يأتي بها بشر ؛لأنهم لم يتعقلوا ،ولم يريدوا تعقّل الفكرة التي تجمع بين البشرية والنبوّة ،وهكذا بحثوا عمن ينسبون إليه القرآن ليكون معلّماً لمحمدٍ ،ومبدعاً لهذه الآيات ،واعتبروه شخصاً غير عربي ؛لأن غالبية العرب كانوا من الأميين .وتلقف هذه الفكرة الكثير من الناس الذين وجدوا فيها وسيلة للتشكيك بنبوة محمد ،وجواباً على جمعه بين الأمية وإبداع القرآن .من هنا أخذ المبشرون والمستشرقون والمتغربون من المثقفين ،يربطون بين ثقافة النبي وبين رعاية آخرين له في عصره وفي بلده ثقافياً .ولكنهم لم يلتفتوا إلى أنهم لم يكتشفوا جديداً في إثارة ذاك الإشكال ،ذلك أن القرآن نفسه نقل عن معارضي الرسالة من قريش ،طرحهم للإشكال نفسه وخلّده في آياته ،ليفكر كل جيل ممن يقرأ القرآن في طبيعة التهمة ،وفي طبيعة ردها ،كي يقتنعوا على أساس الحجة التي يقدمها في هذا الشأن ،ضمن النهج القرآني في تربية العقيدة من خلال الفكر القائم على دراسة المشاكل المثارة حولها .
هذا بالإضافة إلى ما يوحيه من الثقة بالحق في نبوّة النبي محمد ( ص ) بالمستوى الذي لا يخشى فيه ذكر ما قيل في حقه ،تعليقاً على نبوّته ؛لأنه لا يرى فيها سبباً معقولاً للشكّ ،ليعيش الناس في المرحلة البعيدة عن زمن الدعوة الثقة التي عاشها معاصرو الدعوة ،من خلال سماعهم ما كان أولئك قد سمعوه في رد قرآني على أولئك المشككين ،{لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} ،وينسبون إليه القرآن ،{أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} ،فكيف يمكن أن يكون هذا القرآن صنعة رجل أعجمي لا يحسن من العربية شيئاً ،وكيف يمكن لشخص أعجمي أن يأتي بهذا الإبداع الذي أعجز بلغاء العربية فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله ؟!