/م101
وبعد أنْ فنّد القرآن شبهات المشركين ،يتطرق لذكر شبهة أُخرى ،أو على الأصح ،لذكر افتراء آخر لمخالفي نبي الرحمة ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فيقول: ( ولقد نعلم أنّهم يقولون إِنّما يعلمه بشر ) .
اختلف المفسّرون في ذكر اسم الشخص الذي ادعى المشركون أنّه كان يعلّم النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ...
فعن ابن عباس: أنّه رجل يدعى ( بلعام ) ،كان يصنع السيوف في مكّة: وهو من أصل رومي ،وكان نصرانياً .
واعتبره بعضهم: غلاماً رومياً لدى بني حضرم ،واسمه ( يعيش ) ،أو ( عائش ) ،وقد أسلم وأصبح من أصحاب النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وقال آخرون: إنّ معلّمه غلامين نصرانيين: أحدهما: اسمه ( يسار ) ،والآخر: ( جبر ) ،وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدّة وأُخرى بصوت عال .
واحتمل بعضهم: أنّه ( سلمان الفارسي ) ،في حين أن سلمان الفارسي التحق بالنّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المدينة ،وأسلم على يديه هناك ،وأنّ هذه التهم التي أطلقها المشركون كانت في مكّة ،أضف إلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي وليس مدنياً .
وعلى أيّة حال ،فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون ،بقوله: ( لسان الذي يلحدون{[2137]} إِليه أعجمي{[2138]} وهذا لسان عربي مبين ) .
فإِنْ كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ مُعَلِّمَ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئاً ،فهذا في منتهى السفه ؛إِذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلِّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم ،حتى أنّ القرآن تحداهم بإِتيان سورة من مثله فما استطاعوا ،ناهيك عن عدد الآيات ؟!
وإِنْ كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي ..فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر ؛إذ أن المحتوى القرآني قد صُبَّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة ،بحيث خضع لبلاغته وإِعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب ،وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيِّ إِنسان ،وليس لذلك أهلا سوى اللّه عز وجل ،وسبحانه عمّا يشركون .
وبنظرة تأمّلية فاحصة ،نجد في محتوى القرآن أنّه يمتلك المنطق الفلسفي العميق في إِثبات عقائده ،وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح الإِنسان وقوانينه الاجتماعية المتكاملة ،وأنّ كلّ ما في القرآن هو فرق طاقة المستوى الفكري البشري حقّاً ..ويبدو لنا أن مطلقي الافتراءات المذكورة ،هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون ،ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إِلاّ .
والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم مَنْ ينسبون إِليه القرآن ،ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شيئا ونسبوا إِليه القرآن ،عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء .
أضف إلى ذلك كله ،أن تاريخ حياة النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر ،وإِن كان ( على سبيل الفرض ) صاحب القرآن موجوداً ،ألا يستلزم ذلك اتصال النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) به وباستمرار ؟إِنّهم حاولوا التشبث لا أكثر ،وكما قيل: ( الغريق يتشبَّث بكل حشيش ) .
إِنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإِعجازي أمر واضح ،ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر ،حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإِنساني ،والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر .
نعم ،فمع كل ما وصلت إِليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو المتفوق وسيبقى .
وذكر سيد قطب في تفسيره: أنّ جمعاً من الماديين في روسيا ،عندما أرادوا الانتقاص من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة ( 1954 م ) قالوا: إِنّ هذا الكتاب لا يمكن أنْ ينتج من ذهن إِنسان واحد ،«محمّد » ،بل يجب أنْ يكون حاصل سعي جمع كثير من الناس ،بما لا يصدق كونهم جميعاً من جزيرة العرب ،وإِنّما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة{[2139]} .
ولقد كانوا يبحثونوفقاً لمنطقهم الإِلحاديعن تفسير مادي لهذا الأمر من جهة ،وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إِشراقة عقلية لإِنسان يعيش في شبه الجزيرة العربية من جهة أُخرى ،ممّا اضطرَّهم لأنْ يطرحوا تفسيراً مضحكاً وهو: اشتراك جمع كثير من الناسفي تأليف القرآنمن داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها !!على أنَّ التاريخ ينفي ما ذهبوا إِليه جملة وتفصيلا .
وعلى أيّة حال ،فالآية المباركة دليل الإِعجاز القرآني ،من حيث اللفظ والمضمون ،فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته ،والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ،ما يفوق قدرة أيّ إِنسان .( قد كان لنا بحث مفصل في الإِعجاز القرآني تناولناه في تفسير الآية ( 23 ) من سورة البقرةفراجع ) .