{وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وهو الذي فهم الحياة الدنيا فهماً عميقاً خاصاً ،ينطلق من فهمه لمسألة الإيمان الذي يرى في الدنيا مزرعة الآخرة ،فليس المطلوب منه أن يترك طيباتها وشهواتها ولذائذها أو يبتعد عن قضاياها ،بل المطلوب منه أن لا يستغرق فيها من خلال هواه ،ولكن ينطلق فيها من خلال خوفه مقام ربّه ،وملاحظته العلاقة بين الممارسة العملية في الدنيا وبين النتائج السلبية والإيجابية في الآخرة ،ليظل في عملية اتصالٍ دائمٍ وثيق بالخط المتوازن من خلال ما يوحي به العقل ويتحرك به المنطق ،ما يجعل من الآخرة ،التي يتمثل فيها رضوان الله ونعيم الجنة ،هدفاً لكل أعمال الدنيا ،لتكون دنيا الإنسان الحسيّة ،آخرةً بمعنى انطلاقها من رضوان الله .ولكن المسألة ليست إرادةً تعيش في الأعماق ،بل هي الإرادة التي تدفع نحو العمل ،وتقود إلى الهدف ،لتعيش الحركة الفاعلة المتصلة بالخط الذي يربط الدنيا بالآخرة ،حيث يتركز الإيمان في عمق الشخصية ،لأن السعي إلى الآخرة من خلال طبيعة العمل الصالح الذي ينسجم مع الخط الإيماني ،هو الذي يحقق الغاية التي حددها الله ،إذ لا بد من أن يكون الساعي إلى الآخرة مؤمناً ،لأن المسألة في المفهوم القرآني هي أن يكون الخط العملي منطلقاً من الخط الروحي والخط الفكري الإيماني ،ليكون له جذوره الضاربة في أعماق النفس الإنسانية .
{فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} فإن الله يشكر للمؤمن الذي يريد الحصول على رضاه في الدنيا والآخرة ،ويعمل في سبيل ذلك بكل ما يملكه من جهد وطاقة وإيمان ،ويعطيه من فضله ما يريد دون تحديد ،لأن الجزاء هنا يلتقي بالعمل ،فلا ينقص حجمه عنه ،بل قد يزيد عليه ،إذ يمنح الله الإنسان فضلاً يضاعف له فيه الثواب العظيم .