قوله تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} أي عمل لها عملها الذي تنال به ،وهو امتثال أمر الله ،واجتباب نهيه بإخلاص على الوجه المشروع{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي موحد لله جل وعلا ،غير مشرك به ولا كافر به ،فإن الله يشكر سعيه ،بأن يثيبه الثواب الجزيل عن عمله القليل .
وفي الآية الدليل على أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا مع الإيمان بالله ؛لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة ،لأنه شرط في ذلك قوله{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} .
وقد أوضح تعالى هذا في آيات كثيرة .كقوله:{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [ النساء: 124] ،وقوله:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ النحل: 97] وقوله:{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ غافر:40] إلى غير ذلك من الآيات .
ومفهوم هذه الآياتأن غير المؤمنين إذا أطاع الله بإخلاص لا ينفعه ذلك ؛لفقد شرط القبول الذي هو الإيمان بالله جل وعلا .
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات أخر .كقوله في أعمال غير المؤمنين:{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [ الفرقان: 23] ،وقوله:{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [ إبراهيم: 18] الآية ،وقوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [ النور: 39] الآية ،إلى غير ذلك من الآيات .
وقد بين جل وعلا في مواضع أخر: أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله يجازى به في الدنيا ،ولاحظّ له منه في الآخرة .كقوله:{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ في الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ هود:16] ،وقوله تعالى:{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [ الشورى: 20] .
وثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحو ما جاءت به هذه الآيات: من انتفاع الكافر بعمله في الدنيا من حديث أنس ،قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ،وزهير بن حربواللفظ لزهيرقالا: حدثنا يزيد بن هارون ،أخبرنا همام بن يحيى ،عن قتادة ،عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يُعطى بها في الدنيا ويُجزى بها الآخرة .وأَمَّا الكافر فيُطعَم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا ،حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها » .
حدثنا عاصم بن النضر التيمي ،حدثنا معتمر قال: سمعت أبي ،حدثنا قتادة عن أنس بن مالك: أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طعمة من الدنيا .وأَما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ،ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته » .
حدثنا محمد بن عبد الله الرزي ،أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء ،عن سعيد ،عن قتادة ،عن أنس ،عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديثهما .
واعلم أن هذا الذي ذكرنا أدلته من الكتاب والسنة من أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الدنيا: كبر الوالدين ،وصلة الرحم ،وإكرام الضيف والجار ،والتنفيس عن المكروب ونحو ذلك ،كله مقيد بمشيئة الله تعالى ؛كما نص على ذلك بقوله:{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} [ الإسراء: 18] الآية .
فهذه الآية الكريمة مقيدة لما ورد من الآيات والأحاديث .وقد تقرر في الأصول أن المقيد يقضي على المطلق ،ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا .وأشار له في «مراقي السعود » بقوله:
وحمل مطلق على ذاك وجب ***إن فيهما اتحد حكم والسبب