/م18
بعد ذلك تنتقل الآيات إلى توضيح وضع المجموعة الثّانية ومصيرها ،وبقرينة المقابلة وهي أسلوب قرآني مميِّزيتوضح الموضوع أكثر إِذ يقول تعالى: ( ومَن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ،فأولئك كان سعيهم مشكوراً ) .
بناءاً على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إلى السعادة الأبدية ،هي:
أوّلاً: إِرادة الإِنسان: وهي الإِرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية ،ولا تكون مرتبطة باللذات الزائلة والنعم غير الثابتة ،والأهداف المادية ؛فالإِرادة القوية والروحية العالية تجعلان من الإِنسان حرّاً طليقاً غير مرتبط بالدنيا .
ثانياً: هذه الإِرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإِنسان ،بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإِنساني ،وتدفعهُ للحركة ،وببذل كل ما يستطيع مِن السعي في هذا المجال ( يجب الملاحظة ،بأنَّ كلمة «سعيها » قد جاءت في الآية الكريمة للتأكيد .وهي تعني أنَّ على الإِنسان أن يبذل أقصى ما يستطيع مِن السعي في سبيل الآخرة ) .
ثالثاً: إِنَّ كل ما سبق مِن حديث عن الإِرادة في النقطتين السابقتين ،ينبغي أن يقترن بالإِيمان ؛الإِيمان الثابت القوي .لأنَّ أي تصميم وجهد ،إِذا أريد لهُ أن يُثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة ،ومصدر هذه الأهداف هو الإِيمان باللّه لا غير .
صحيح أنَّ السعي وبذل الجهد للآخرة لا يمكن أن يكون بدون إِيمان ،حيث أنَّ مفهوم الإِيمان داخل ضمنهُ ،ولكن يجب عدم الاكتفاء بهذا المقدار مِن الدلالة الإلزامية للإِيمان ،بل وينبغي التوسع في شرطِ الإِيمان ،بحكم أنَّ ( الإِيمان ) يعتبر أمراً أساسياً ،وركناً مهمّاً في هذا الطريق .
والملاحظ هنا ،أنَّ الآية تخاطب عبيد الدنيا بالقول: ( جعلنا لهُ جهنَّم ) بينما عندما تنتقل إلى طُلاّب الآخرة وعشّاقها ومريدها ،فهي تخاطبهم بالقول: ( فأُولئكَ كانَ سعيهم مشكوراً ) .إِنَّ استخدام هذا التعبير أشمل وأجمل مِن استخدام أي تعبير آخر ،مثل ( جزاءهم الجنّة ) لأنَّ الشكر من أي شخص هو بمقدار شخصيته ومكانته لا بمقدار العمل الذي تمَّ ،لذا فإِنَّ شكر اللّه لسعي عباده يتناسب مع ذاته اللامتناهية ،ونعمه المادية والمعنوية وما نتصوره وما نعجز عن تصوّره .
وبالرغم من أنَّ بعض المفسّرين قد فسّروا كلمة «مشكوراً » في هذه الآية بمعنى «الأجر المضاعف »{[2191]} .أو بمعنى «قبول العمل »{[2192]} ،إِلاّ أنَّهُ مِن الواضح أن كلمة «مشكوراً » لها معنى أوسع مِن هذه المعاني جميعاً .
/خ21