وهم الشرك
وتبقى مسألة التوحيد هي الأساس الثابت ،الذي يخاطب الله به عباده ويدعو نبيّه ليحاورهم فيه ،فيواجه الأفكار الوهمية التي تدعم الشرك ،ويقتحم المشاعر الخفية التي تحتضنه ،لأن هذه المسألة تشكّل الخط العام للحياة الذي تلتقي به كل الخطوط التفصيلية التي يريد الله للناس أن يتحركوا فيها .
{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} من هؤلاء الذين تعبدونهم بمختلف وسائل العبادة وأشكالها ،وتعمقوا في دراسة خصائصهم الذاتية وطبيعة قدراتهم ،ولا تواجهوا المسألة معهم من موقع الألفة التي تحجب عن الإنسان الطبيعة المظلمة للأشياء ،أو من موقع التقليد الذي يستغرق الإنسان معه بالمقدّسات الموروثة بعيداً عن أي تفكير أو نقد موضوعي للأشياء ...وبادروا بدراسة حاجاتكم الملحّة المعقّدة وما أنتم فيه من مشاكل وآلام وأوضاع صعبة ،وقدموها إليهم فستلتقون بالحقيقة الصارخة:{فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} وإزالته{وَلاَ تَحْوِيلاً} عنهم إلى غيرهم .لأنهم لا يملكون قدرةً ذاتيةً من خلال العناصر الخاصة التي يتألف منها كيانهم المحدود ،بل لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً .
إشكالات أمام النقاش
والظاهر أن الآية ليست بصدد الحديث عن دعائهم ،ليروا هل يستجيبون أو لا يستجيبون لهم ؟ليلتقوا بالجانب السلبيّ من ذلك ،فيعرفوا بأنهم ليسوا في مستوى الألوهية الذي يجعلهم شركاء للهسبحانهليثير البعض في ذلك إشكالاً ،وهو أن الناس قد يسألون الله فلا يستجيب لهم ،لأنه لا مصلحة لهم في ذلك ،أو لأن هناك مفسدة ،أو لأن هناك بعض الموانع التي تمنع من تنفيذ ذلك ..فكيف يمكن أن يكون ذلك دليلاً على نفي ألوهيتهم ؟؟
وقد أجاب البعض عن ذلك ،بأن «الله سبحانه إذا انقطع العبد عن كل شيء ،ودعاه عن قلب فارغ سليم ،يستجيب له ،وأن غيره إذا انقطع داعيه عن الله وسأله مخلصاً ،فإنه لا يملك الاستجابة .
ويتابع الجواب فيقول: وعلى هذا ،فلا محل للمعارضة من قبل المشركين ،فإنهم لا يستجاب لهم إذا دعوا آلهتهم ،وهم ،أنفسهم ،يرون أنهم إذا مسهم الضر في البحر ،وانقطعوا إلى الله ،وسألوه النجاة ،نجّاهم إلى البر ،وهم معترفون بذلك .ولئن دعاه المسلمون على هذا النمط عن جدٍّ في الدعاء وانقطاع إليه ،كان حالهم في البر حال غيرهم وهم في البحر ،ولم يخيّبوا ولا ردّوا .
ولم يقابل الله سبحانه في كلامه بين دعائهم لآلهتهم ودعاء المسلمين لإلههم ،حتى يعارض باشتراك الدعاءين في الرد وعدم الاستجابة ،وإنما قابل بين دعاء المشركين لالهتهم وبين دعائهم أنفسهم لهسبحانهفي البحر عند انقطاع الأسباب وضلال كل مدعوٍّ من دون الله » .
إننا نلاحظ على ذلك ،أن الآية واردة على سبيل الكناية ،لإظهار عجزهم الذاتي عن الاستجابة لهم ،لا للحديث عن نفي الفعلية في الزمن المعيّن ،فلا مجال لورود الإشكال من الأساس .
وأما القول بأن الله يستجيب للإنسان إذا انقطع إليه ،فهو غير دقيق ،لأن عدم الاستجابة لا ينحصر بصورة فقدان التوجه القلبي والروحي إلى الله ،بل قد يكون من جهة عدم المصلحة فيه للداعي ،أو لوجود المانع من جهته ،أو من جهة النظام الكوني للحياة .
وقد حاول بعضهم أن يثير أمام هذه الآية إشكالاً آخر ،وهو أن الظاهر من الآية ،أن المقصود بهؤلاء هم الجن والإنس والملائكة ونحوهم من المخلوقات الواعية العاقلة ،بقرينة الآية الثانية الآتية .وفي هذا المجال لا يمكن نفي قدرتهم مطلقاً ،لأن لهم قدرةً خاصة ،ولو بمعونة قدرة اللهكما يعتقد هؤلاء القائلون بألوهيتهمفكيف يمكن نفي القدرة مطلقاً ؟وبذلك قال بأن الظاهر هو نفي القدرة المستقلة .
ولكننا نلاحظ على ذلك ،بأن المسألة ترتكز على إلغاء قدرتهم الخاصة ،الخاضعة في وجودها لله ،المتحركة بإرادتهم ،والإيحاء بأنها لا تملك أن تقدم إليهم شيئاً ،إذا لم يأذن الله بذلك بطريقة غيبيّة ،لأن ما يملكونه من القوّة لا يقوم به لو أرادوا ذلك ،لأن الأمر من اختصاص القوة الإلهية التي لم يعطها لأحدٍ من عباده بطريقةٍ ذاتيةٍ مستقلةٍ .