نِعَمٌ تتوالى ،وألطافٌ تتحرّك في التاريخ:
] وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ[.
هذه إحدى النعم التي أنعمها اللّه على بني إسرائيل ،فقد كانوا يرزحون تحت حكم الطغيان الفرعوني الذي كان يعمل على إبادة رجالهم بكلّ وسيلة مهما كانت وحشية قاسية ،فقد كان يذبح الأولاد الذكور الذين يولدون خوفاً من أن يكونوا قوّة مضادة ،ويبقي النساء لحاجته لهنّ في خدمته وخدمة قومه .وقد ذُكر في كلمة «يستحيون » وجهان:
الأول: أنَّها مشتقة من الحياة بمعنى أنهم يطلبون الحياة لهنّ .
الثاني: أنَّها مشتقة من الحياء أو الاستحياء ،بمعنى أنَّ الحياء يبعثهم على الإبقاء عليهن بعلاقة المجاز ،لأنَّ الاستحياء يمنع الإنسان عن عمل ما يستحي منه عادة .
وهناك أحاديث متعدّدة لا نستطيع الوثوق بها لإمكان أن تكون مستمدةً من بعض رواة اليهود الذين جعلوا من أنفسهم مفسّرين للقصص القرآني ،وهو ما نسميه بالإسرائيليات ،ولا مانع من أن يكون لها نصيب من الواقع في بعض الحالات ...وعلى كلّ حال ،فإنها قد تعطينا ظلالاً على الأجواء التي تحدّثنا عنها الآية الكريمة ،وذلك ما نحتاجه من القصص القرآني ،فإننا لسنا في حديث يربطنا بالتاريخ من خلال التفاصيل ،بل نحن في حديث يربطنا بالعبرة الحيّة من خلال التاريخ ،وبذلك فلا نخضع للقصص المروية في استيحاء الآيات القرآنية ،بل نعمل على أن نعيشها ونحاكمها في الأجواء التي نستوحيها من الآية في قراءتنا لها .
وخلاصة ما ترويه هذه الأحاديث ،أنَّ فرعون رأى في منامه أنه سيموت على يد شخص من بني إسرائيل ،فأراد أن يعطّل مفعول المنام في المستقبل بإفناء كلّ الذكور منهم وذلك بقتل كلّ وليد ذكر ،الأمر الذي أدّىكما تقول القصةإلى أنَّ قومه ضجوا إليه ،فقالوا له: يوشك أن نفقد العمال ونكلّف نحن بالعمل ،لأنَّ بني إسرائيل كانوا يمثّلون اليد العاملة في ذلك المجتمع ،فبادر إلى ذبح أبنائهم سنة وتركهم سنة .وربما كانت قصة ولادة موسى وإلقاء أمه له في البحر دليلاً على صدق بعض هذه التفاصيل في القصة .
وربما كان الأساس في هذا السلوك الفرعوني ،خوف الفراعنة من تكاثر هؤلاء المستضعفين من الناحية العددية ،وتطوّرهم في قوّتهم النامية ،بحيث يتحوّلون إلى خطر يتهدّد ملكهم وجبروتهم ؛الأمر الذي يفسر ذبح الأولاد الذين هم شباب المستقبل القوي ورجاله ،بينما لا تمثّل النساء أيّ عنصر قوّة اجتماعي أو اقتصادي أو عسكري ،ولا سيما في ذلك الزمان ،بل ربما يُحتاج إليهن كقوّة عاملةٍ للخدمة في تقوية ملك الفراعنة .
] وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ[ الذين كانوا يستعبدونكم ويضغطون على حريتكم ،فلا يملك أحدٌ منكم أمامهم أي حول أو قوّة ،فلا يستطيع الدفاع عن نفسه أو حماية وجوده ،فكانوا] يَسُومُونَكُمْ[ أي: يذيقونكم] سُوءَ الْعَذَابِ[ أي العذاب السيىء الشديد في وحشيته وقسوته ،في استخدامهم لكم في أعمالهم العمرانية والزراعية والخدماتية ،وفي فرض الجزية عليكم من دون أساس .ويشتدّ ذلك ويتعاظم في صورة أكثر قسوة ووحشية ،فهم] يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ[ ولا يبقى منكم في المستقبل شباب يملكون القوّة ورجال يعملون من أجل الحرية ،كوسيلة من وسائل مصادرة وجودكم القوي في المستقبل ،] وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ[ فيبقونهنّ للخدمة وللّذّة ولغير ذلك .] وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ[ لأنه يمثّل الموت الجسدي للذكور والموت المعنوي للإناث .وقد نجّاكم اللّه من ذلك كلّه ببركة موسى ( ع ) الذي جاهد في رسالته جهاد الأبطال من أجل حريتكم ،التي هي رمز حرية الإنسان المستضعف .
وقد جاءت هذه الآية لتقول لهمللبقية الباقية منهمفي زمن النبيّ محمَّد ( ص ): إنَّ اللّه قد رفع عنكم هذا البلاء العظيم بفضل موسى ( ع ) ورسالته ،وأنعم عليكم بنعمة الامتداد في الحياة بعيداً عن كلّ طغيان مدمّر وحشي ،فلماذا لا تشكرون ؟
ضرورة استحضار اللّه في كلّ شيء:
ويمكن لنا أن نستوحي هذه النعمة في كلّ موقف يقفه أفراد أيّ شعب من الشعوب تحت سلطة الحكم الظالم الذي يقهرهم ،ويضطهدهم ،ويقتل الأبرياء من أبنائهم ،ويستغل خيراتهم وثمراتهم ،ويكبت حرياتهم ،ويعطّل طاقاتهم عن الحركة والانطلاق ،وذلك عندما يرتفع عنهم هذا الكابوس الثقيل بما يصنعه اللّه لهم من الظروف والأوضاع والوسائل الداخلية والخارجية ،فلا بُدَّ لهم من الوقوف أمام ذلك موقف المؤمن الواعي الشاكر لنعمة اللّه ،عندما يلتفتبعمقإلى ألطاف اللّه وآلائه ،في تيسير ذلك كلّه بشكل مباشر ،فيواجهون الحياة من موقع إرادة اللّه الأصيلة العميقة في الأشياء ،لا من موقع الأسباب الظاهرية فقط ،لأنَّ ذلك ما يربطهم باللّه دائماً من خلال الوعي الأعمق والفهم الأرحب ،فلا يتصوّرون شيئاً إلاَّ ويرون اللّه معه ،ولا يواجهون شيئاً إلاَّ ويرون اللّه خلفه .