أخذ سبحانه وتعالى يذكر النعم التي أنعمها عليهم ، وابتدأ بنعمة الإنقاذ فقال تعالى:
وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب
يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء
من ربكم عظيم ( 49 )
ابتدأ سبحانه وتعالى بأعلى النعم التي أنعم بها عليهم وهي نعمة الإنقاذ من شر من في الوجود إبان ذلك ، وهو فرعون الذي اتخذه الفساق الظالمون من الحكام قدوة يقتدون به في مظالمه ، وإن لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أن ينتصروا في الحروب مثل انتصاره في عصره .
أنقدهم الله تعالى على يدي موسى كليم الله من بطش فرعون ، وقد كان بطشه شديدا بهم ؛ لأنهم كانوا يعدون أجانب في مصر ، وكانوا أعداء لهم ، فكان فرعون يتخذ السبيل لإفنائهم ، أو إضعافهم فكان يقتل شبابهم ذبحا ، ويبقي النساء ، ويقول سبحانه وتعالى:{ وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب} .
قال سبحانه وتعالى:{ وإذ نجيناكم} أي اذكروا الوقت الذي أنجيناكم فيه من آل فرعون ، فإذا تدل على الوقت الماضي ، ومعنى ذكر الوقت ذكر ما كان فيه من أحداث خطيرة وشديدة ، واستحضار الأهوال التي كانوا يعيشون في بأسها ، وضرائها ، وإنه تقدر النجاة من الله تعالى بمقدار ما كان هول الأمر الذي نجاهم الله تعالى منه .
ولقد قال تعالى:{ آل فرعون} ولم يقل أنجاكم من فرعون وذلك لأن آله شيعته ونصراؤه وأعوانه ، وطغاة الدنيا يكون شرهم من أنفسهم أولا ، ومن حاشيتهم الذين يحطون على أهوائهم ثانيا ، فيزينون لهم ظلمهم ، ويسمونه عدلا ويبينون له وجوه الكيد ، ويمكرون مكرهم ، فلولا بطانة السوء ما كان السوء ، ولولا حاشية فساق الحكام ما استمكنوا وما طغوا في البلاد ، وكلمة حق من حاشيتهم تقيم عدلا ، وتدفع ظلما .
لذلك عبر بآل فرعون ، لأنه لم يستمكن وحده من الظلم .
وذكر سبحانه ما كان يفعله فرعون وآله ، فقال سبحانه:{ يسومونكم سوء العذاب} أي يذيقونكم سوء العذاب ويجعلونه ملازما لكم لا تفارقونه ، ولا يفارقكم ، ويقال:سامه خطة خسف ، وأولاه خطة خسف ، أي جعل ولايته خسفا وعسفا ، ولقد قال عمرو بن كلثوم الفارس العربي:
إذا ما الملك سام الناس خسفا *** أبينا أن نقر الخسف فينا
وسوء العذاب أشد سوءا وأثرا في النفوس ، ويديمونه ؛ لأن "سام "تدل على الدوام ومن ذلك السائمة التي تديم الرعي في الكلأ ، وبين سبحانه وتعالى هذا العذاب الهون فقال مبينا:{ يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} فهم يعملون على إفناء الذكور وإبقاء النساء .
والتعبير ب{ يذبحون أبناءكم} كناية عن العمل على إفنائهم وتخضيد شوكتهم وإبعادهم عن مواطن السلطان ، وذلك بذبحهم أحيانا ووضعهم في مواضع الذل والمهانة ، والغاية ألا يكون لهم وجود قائم بذاته ، فقد حكي عنهم أن فرعون كان يذبح منهم ، وكان يتخذ منهم عمالا مسخرين في الأبنية التي يشيدها وكان يسخرهم لحرث الأرض ، والثمرة لغيرهم ليذلهم ، وكان يتخذ منهم خدما في البيوت وهم الأرذلون .
وذكر الذبح بالذات ، وهو إحدى وسائل فرعون لسوء العذاب الذي كان يذيقه إياهم لأنه أشدها هولا ، ولأن إفناءهم هو الغاية ، وهو أقرب طرقه ، وهو المصدر لما كانوا عليه من الآلام .
وقوله تعالى:{ ويستحيون نساءكم} أي أبقوهن أحياء لم يذبحوهن ، وكانوا راغبين في ذلك ، ولذلك كانت السين والتاء اللتان تدلان على الطلب ، والمعنى طلبوا حياة نسائهم لغايات في نفوسهم وليشبعوا بهن شهواتهم ، ولقد بين الله تعالى أن ذلك هول شديد تختبر به نفوسهم ؛ ولذلك قال تعالى:{ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} الإشارة هنا إلى هذا العذاب الشديد السيئ ، والخطاب لهم ، ولأن الإشارة إلى ما نزل بهم جعل الخطاب لهم لا بالكاف المفردة بل بالكاف وعلامة خطاب الجمع ، وبلاء معناه الاختبار الشديد لتتربى نفوسهم على التحمل ولبث الرحمة في قلوبهم لأنه لا تكون الرحمة إلا بالآلام الشديدة التي يحس بها الشخص فيرحم غيره ، فإنه لا تنبع الرحمة إلا من قلب أحس بالآلام ، وتربى في أحضانها فلا يكون قاسيا على الناس ، ويكون رحيما بهم ، فكان هذا البلاء الفرعوني تربية لنفوسهم لتكون بارة ؛ ولذلك قال:{ من ربكم} أي من الله الذي خلقكم وربكم بعنايته وحماكم بكلاءته ، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه{ عظيم} لكبر هوله وبعد أثره .
وإن الله تعالى مكن فرعون منهم لكي يعلموا أنهم ليس لهم فضل لذواتهم ولكن لما هيأهم الله تعالى لتلقي رسالته ، وتبليغ كلمته ، وهي كلمة التوحيد والعمل بالأوامر الإلهية .