{نَقْذِفُ}: القذف: الرمي البعيد .
{فَيَدْمَغُهُ}: دمغه دمغاً أي: شجّ رأسه حتى يبلغ الدماغ .والمراد بالدمغ هنا: القمع والإبطال .
{زَاهِقٌ}: زهق الشيء يزهق أي: هلك .
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} إذ يريد الله للحق أن يحتوي الحياة كلها من خلال ما أودعه فيها من أسرار ،وشرائع أنزلها على رسله ،أو من خلال الفطرة الكامنة في أعماق الوجدان الإنساني ،والعقل المرتكز في كيانه ،فيعطي للحق معناه وفاعليته وقوّته ،ويمنع الباطل أن يفرض نفسه على منطق الحياة والوجود ،لأنه لا يملك عناصر البقاء في ذاته ،بل يعيش القوة كحالة طارئة محكومة للأوضاع الخارجية المحيطة به .وبذلك ،لا بد أن تنتهي حركة الصراع فيما بينهما بأن يُسقط الحق الباطل ،فيفجره من الداخل ،بضربةٍ قويّةٍ في نهاية المطاف ،{فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أمام الحجة القاطعة القوية التي لا تمنح الواقع الفرصة للخلود ،وأمام تفاصيل الوجود التي لا يمكن للحق معها أن يسمح للباطل بالنفاذ إلى عمق الوجود .وهكذا تكون النتيجة في النهاية لصالح الحق ،كما كانت البداية له أيضاً ،ما يجعل مسألة الجدية التي هي المظهر الأعلى للحق في معناه وحركته ،قانوناً ثابتاً في الكون .وبذلك كانت قضية المعاد ،بما تمثله من الهدف الكبير لحركة الإنسان في الحياة ،ضرورةً عقليةً وكونيّة ،في ما أرسله الله من رسالات ،وبعث من رسل ،بالرغم من كل الكلمات اللامسؤولة ،والخيالات المنحرفة التي يثيرها الكافرون والضالون ،{وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} من كلمات الكفر والضلال المتمثلة بجحود أمر الرسالة والمعاد من دون حجةٍ ولا برهان .
إن المسألة التي تفرض نفسها في صراع الحق والباطل ،هي أن الحق يحمل في داخله عناصر البقاء من حيث انسجامه مع حاجة الحياة ،وطبيعة الأشياء ،بينما يمثل الباطل في حركته ووجوده ،الظروف الاستثنائية الطارئة التي قد تتغذى من أكثر من جهة .
ولهذا فقد يكون من الضروري للعاملين في ساحة الصراع أن يحددوا العناصر المحقة الثابتة لأي موضوع ،وأن يدرسوا الظروف المتصلة به من حيث علاقتها بالصورة والموقع والعمق والامتداد ،لأنها ربما تغير طبيعة الأشياء ،فمسألة الحق والباطل قد تكون نسبية في ما يتعلق بالواقع المتحرك للإنسان ،إذ قد يكون الشيء حقاً في زمان أو في موقع ،وباطلاً في زمان أو في موقع آخر ،تبعاً لحركة المتغيرات من حوله ،حتى لا نقع في سوء التقدير أو الفهم للقضايا عندما نواجه الأمور في دائرة المطلق ،فيخيل إلينا أن الحق باطل والباطل حق ،لأننا لا نملك مقياس العناصر الثابتة والمتحركة في هذا المجال .
وقد ينبغي لنا أن نواجه الظروف الطارئة التي تمنح الباطل قوة على مستوى الأوضاع والساحات والأشخاص والأزمنة ،لنعرف كيف نحرك الصراع في مواجهتها ،من حيث النظرة إلى طبيعة الفكرة والظروف ،حتى نحدِّد الأدوات التي نستعملها في هذا المجال أو ذاك ،لئلا نخطىء من حيث نريد الإصابة ،أو نعتبر الإصابة حركة في مواقع الخطأ .
وربما كان من مشاكل الساحة العملية ،هذه النظرة المطلقة للحق والباطل ،ما يجعل المسألة في دائرة المثال ،فيبتعد بنا عن الدائرة الواقعية التي تتغيّر فيها ملامح الأشياء تبعاً لتغير ملامح الظروف المحيطة بها ؛ثم هذا الاستغراق في عمق الباطل في النظرة بعيداً عن الأجواء والأوضاع المحيطة به التي تعطيه قوة في ذاته ،أو تزيده قوة على قوة ،قد يدفعنا إلى الكثير من الارتباكات والانحرافات في التحرك نحو الأهداف الكبيرة في مواقع التحدّي في المعركة .
ومن خلال ذلك ،نستطيع أن نفهم كيف يمكن انتصار الحق على الباطل على أساس الأخذ بأسباب النصر ،بما نفهمه من طبيعتها وأدواتها وأساليبها والمدى الزمني الذي يجب أن تقطعه ،كما نعرف من خلاله الأسباب التي تكمن وراء الهزائم الكبيرة التي تصيب الحق وفي أكثر من موقع ابتعد فيه العاملون عن فهم الأسباب الحقيقية لعوامل الصراع .