ويستمر القرآن في مناقشة فكرة الشرك المتخلفة التي سادت بين الناس في الجزيرة العربية .
{وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} حيث كانوا يتحدثون عن الملائكة ،فيزعمون أنهم أولاد الله سبحانه ،باعتبارهم مخلوقات غيبيةً غامضةً موجودةً في السماء التي هي المكان الطبيعي للهفي زعمهم،وهم يحملون ملامح خارقةً تقترب من ملامح الصورة التي يحملونها عن الله ،ما يؤكِّد التقارب الذاتي بينهم وبينه ،تماماً كما هو التقارب بين الأب وأولاده في الملامح والصفات .
وهكذا نجد أن فكرة الولد لله ،التي تمثلت في عقيدة بعض النصارى وبعض اليهود ،وبعض العرب ،كانت ناشئة من القدرات الخارقة التي يدّعونها لهؤلاء ،إذ إنهم يرون أنه لا يمكن أن يكون إلاّ عن نسبة إلهية عضوية ،نظراً إلى أن أصحاب هذه العقيدة لا يتعقلون إمكانية إعطاء الله لهؤلاء بعضاً من القدرة التي قد يصنعون بها ما يقومون به من معجزات ،أو ما يعيشونه من أوضاع مميزة .وفي ضوء ذلك نعرف أن التخلُّف في فهم الأمور هو المسؤول عن انحراف العقيدة ،وأن الاستغراق في تضخيم الأشخاص من خلال ما يوحيه من تصورات ،ويثيره من انفعالات هو الأساس في عبادة الشخصية ولو بطريقة غير مباشرة ،ما يفرض على العاملين الحذر في إثارة الحديث عن صفات العظماء في تقييم شخصيتهم ،وذلك باعتماد النظرة الموضوعية الهادئة ،بعيداً عن النظرة الانفعالية الحادة .
بل عباد مكرمون
{وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} فإن عظمته في مقام ألوهيته تتنزّه عن ذلك ،لأن الولد يعني الحاجة ،ويعني المحدودية والجسمية ،تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .وإن هؤلاء الذين يدّعون لهم مثل هذه الصفة ،لا يوافقون على ذلك في ما يعرفونه من أنفسهم وقدراتهم التي مهما كبرت وعظمت فإنها لا تخرج عن كونها من خلق الله ،كما أنهم مخلوقون له كجزء من مخلوقاته ،فليسوا أولاداً له ،{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} أكرمهم الله بتقريبهم إليه ،فمنحهم الدرجة العليا ،وأعطاهم الموقع الحسن ،ومنحهم الميزة على بقية المخلوقين ،انطلاقاً من حكمته التي تحدد مواقع المخلوقين في الكون ،كما تخطط لحركة الأشياء فيه ،وانسجاماً مع روحيتهم العميقة في خضوعهم لله وانقيادهم له ،في آفاق العبودية المطلقة التي يعيشونها فكراً ،ويتحسسونها شعوراً ،ويتحركون فيها عملاً وطاعة ،