{الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} .هذه الجملة خبرية تتحدث عن انتفاء إقامة علاقة بين الزاني وغير الزانية والمشركة ،فلا علاقة للزاني بالمسلمة العفيفة ..{وَالزَّانِيَةُ لاَ ينكحها إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فلا علاقة بينها وبين غير هذين ،{وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فليس للمؤمن أن يتزوج الزانية ،وليس للمؤمنة أن تتزوج الزاني ،لأن ذلك محرّم على كلٍّ منهما .هذا هو التفسير الحرفي للآية ،ولكن هناك أكثر من علامة استفهام حول التفاصيل ،فيما هو الطابع المعنوي لمفرداتها ولمجملها ..وهناك أكثر من رأيٍ في هذا المجال .
أولها: إن الآية واردة في الحديث عن طبيعة الظاهرة العامة التي تتمثل في أن العلاقات بين الناس ،لا سيما الزوجية منها ،تقوم على التماثل في الأخلاق والأعمال ،لأن المشاكلة تنتج الألفة ،وهي تنتج العلاقة ،كما قال الشاعر: «كل شكل لشكله ألِفٌ ..» ،فيكون المعنى أن الزاني الذي لا يراعي قواعد العفّة والطهارة في حياته على مستوى العلاقات ،ولا يؤمن بالضوابط الإيمانية التي تقضي بالامتناع عن ممارسة الجنس غير المشروع ،لا يميل إلى المرأة المؤمنة العفيفة الطاهرة التي تتبنى الإيمان قاعدةً لسلوكها بما يستلزمه من عفّة ،لأنها ترفض كل سلوك الزاني ،بل يميل إلى المرأة الزانية التي تتفق معه على قيم الانحراف والحرية في ممارسة الجنس غير المشروع ،بعيداً عن القواعد الشرعية ،أو إلى المرأة المشركة التي لا تنطلق من قاعدة الإيمان التي ترفض الزنى كله ،ولذلك فإن المسألة لا تثير لديها تجاه سلوكه أيّ موقف سلبيٍّ من ناحية المبدأ ،ما يجعل الانسجام قائماً بين الزاني والزانية على أساس قوي ..وهكذا الزانية بالنسبة إلى الزاني أو المشرك ،لأن لديهما خطاً وجوّاً نفسياً وموقفاً واحداً .
وبذلك تكون الآية في صدد الحديث عن التناسب الطبيعي الذي يقود إلى التوافق العملي ،كظاهرة موجودة لدى الأعم الأغلب من الناس ،كما قيل في تفسير قوله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [ النور: 26] .
ثانيها: إن الآية واردة في مجال التأكيد على أن شأن الزاني وطبيعة موقعه المنخفض أخلاقياً وروحياً ،أن لا يتزوج إلا الزانية أو المشركة ،لأنها هي التي تليق بانحطاط مستواه ،من خلال انحطاط مستواها ،بسبب ما تمارسه من الزنى ،أو ما تعتقده من شرك بالله ،لأن المرأة المؤمنة لا يمكن أن تنحدر إلى موقعه المنحطّ ..وكذا حال الزانية بالنسبة إلى الزاني والمشرك ،فتكون الآية في صدد الإيحاء بما يمثله الزنى من حالة انحطاط روحيٍّ وأخلاقي ،يمنع صاحبه من إقامة علاقة بين الزاني وبين الناس المؤمنين الطاهرين ،لأنه لن يصل إلى مستواهم الإنساني الرفيع .
ثالثها: إن الآية واردة في مجال التشريع الذي يريد تأكيد النهي من خلال الجملة الخبرية ،التي قد تقوم مقام الطلب للفعل في مجال الوجوب ،أو الطلب للترك في مجال التحريم ،وذلك على ضوء الأحاديث الواردة في السنّة الشريفة .
وخلاصة المعنى على هذا الرأي ،«أن الزاني إذا اشتهر منه الزنى وأقيم عليه الحد ،ولم تتبيّن منه التوبة ،يحرم عليه نكاح غير الزانية والمشركة ،والزانية إذا اشتهر منها الزنى وأقيم عليها الحد ،ولم تتبيّن منها التوبة ،يحرم أن ينكحها إلا زان أو مشرك » .
ويتابع القائل بهذا القول إكمال الفكرة فيقولكما جاء في تفسير الميزان: «فالآية محكمة باقيةٌ على إحكامها من غير نسخٍ ولا تأويل ،وتقييدها بإقامة الحدّ وتبيّن التوبة ،مما يمكن أن يستفاد من السياق ،فإن وقوع الحكم بتحريم النكاح بعد الأمر بإقامة الحدّ ،يلوّح إلى أن المراد به الزاني والزانية المجلودان ،وكذا إطلاق الزاني والزانية على من ابتلي بذلك ،ثم تاب توبة نصوحاً وتبيّن منه ذلك ،بعيدٌ من دأب القرآن وأدبه ..» .
وقد اعتمد صاحب هذا الرأي على الأحاديث الواردة في أسباب النزول ،المؤكِّدة على الجانب التشريعي في الآية ،فقد أورد عن الدر المنثور: «أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم ،والمدينة غالية السعر شديدة الجهد ،وفي السوق زوانٍ متعالنات من أهل الكتاب ،وأمّا الأنصار منهن أُمية وليدة عبد الله بن أبيّ ،ونسيكة بنت أميّة لرجل من الأنصار في بغايا من ولائد الأنصار قد رفعت كل امرأة منهنّ علامة على بابها ليعرف أنها زانية ،وكنّ من أخصب أهل المدينة وأكثره خيراً .
فرغب أناس من مهاجري المسلمين في ما يكتسبن للذي هم فيه من الجهد ،فأشار بعضهم على بعض: لو تزوّجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من فضول أطعامهنّ ،فقال بعضهم: نستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ،فأتوه فقالوا: يا رسول الله ،قد شقّ علينا الجهد ،ولا نجد ما نأكل ،وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهنّ وولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهن ،فيصلح لنا أن نتزوج منهنّ فنصيب من فضول ما يكتسبن ،فإذا وجدنا عنهن غنًى تركناهنّ ؟فأنزل الله:{الزاني لاَ يَنكِحُ} فحرِّم على المؤمنين أن يتزوجوا الزواني المسافحات العالنات زناهنّ .
وجاء في الكافي ،في أحاديث أهل البيت ( ع ) عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله ( ع ) عن قول الله عز وجل:{الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قال: هن نساء مشهورات بالزنى ورجال مشهورون بالزنى ،شهروا وعرفوا به ،والناس اليوم بذلك المنزل ،فمن أقيم عليه حدّ الزنى أو متّهمٌ بالزنى لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتى يعرف منه التوبة[ 3] .
وقد جاء في حديث آخر عن حكم بن حكيم عن أبي عبد الله( ع ) في الآية قال: إنما ذلك في الجهر ،ثم قال: لو أن إنساناً زنى ثم تاب تزوّج حيث شاء .
وقد نلاحظ في هذه الأحاديث أنها أكدت على النهي الموجّه إلى المؤمنين ،في دعوتهم إلى الامتناع عن نكاح أهل الزنى من المشهورين والمشهورات به ..ولم تتعرض لتفسير صدر الآية ،كما نلاحظ في الرواية الأولى ،حيث تتناول الرغبة في الزواج على أساس الطمع بالانتفاع بمال الزواني الذي حصلن عليه من الزنى ..
وفي ضوء ذلك ،يمكن أن نقف مع ظهور الآية في صدرها ،لنستفيد منه أحد المعنيين الأوّلين في ما يراد تقريره من أن شبيه الشيء منجذب إليه ،ما يقتضي أن من ينجذب إلى الزناة أو المشركين ،هم أمثالهم من الزانين أو المشركين ،لأن جوّهم النفسي في التصورات والمشاعر واحد ..أمّا المؤمنون ،فلا يقدمون على ذلك ،لأن الإيمان يمثل الرفض الروحي والعملي للزنى والشرك ،ما يوحي بأن المؤمن يرفض من يمارسون ذلك ويعيشونه ،لابتعادهم عن الأجواء والمواقف التي يفرضها الإيمان .
وقد يكون صدر الآية قرينةً على أن الحرمة في الآية ليست واردة بمعنى الإلزام ،بل هي جارية على الأسلوب الذي عالج مسألة علاقات أهل الزنى والمشركين ،ما يوحي بأن الأسلوب هونفسهالمتّبع في علاقات المؤمنين به ،باعتبار وحدة السياق ،ولعلّ هذا هو الأساس الذي يعتمده الرأي الفقهي الذي لم يحرّم الزواج بالزناة ،بل رخص به البعض على كراهة ،واحتاط فيه البعض .وربما أوحت الرواية الثانية عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) بذلك من خلال التعبير بقوله: «لم ينبغ » ،الظاهرة في الكراهة ،بحسب المفهوم منها عرفاًفي ما يقال.
وقد تكون الحرمة أو الكراهة مستفادة بنحو الإيحاء ،على أساس المفهوم الذي يعني أنَّ كلمة «وحرِّم ذلك » ،تدلّ على أن المؤمنين لا يمارسون ذلك ،بل إنه مما حرّموه على أنفسهم ،والله العالم بحقائق آياته .
الزنى لا يصدر عن مؤمن
وقد نحتاج إلى التوقف عند عدة نقاط في هذه الآية:
النقطة الأولى: إن الملحوظ هو المقابلة بين الزناة وبين المؤمنين ،ما يوحي بأنّ الزاني لا يتصف بالإيمان من خلال زناه ،ويدلّ على أنّ الإيمان يمثل نهجاً عملياً في حركة المؤمن ،أو نهجاً فكرياً ،في ما يفرضه من انسجام عمليّ واقعيٍّ ،وليس مجرد حالةٍ ذهنيةٍ بعيدةٍ عن الواقع ..وهذا ما أثاره الإمام أبو جعفر الباقر ( ع ) ،في ما استوحاه من هذه الآية ،فقد جاء في كتاب الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر محمد الباقر في حديث قال: «وأنزل بالمدينة:{الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ ينكحها إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ،فلم يسمّ الله الزاني مؤمناً ،ولا الزانية مؤمنةً ،وقال رسول الله( ص ): ليس يمتري فيه أهل العلم أنه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ،ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ،فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص » .
وعلى ضوء ذلك نفهم أن الإيمانفي معناه الحركي الشاملفكرٌ وحركةٌ في الخط ،فمن فقد أيّاً منهما فقد الإيمان .
انتفاء صفة الزنى عن التائب عنه
النقطة الثانية: إن روايات أسباب النزول تؤكد على إطلاق صفة الزاني والزانية على من يمارسون الزنى كموقف عمليّ ،بحيث يمثل بالنسبة لهم نهجاً أو تجارة ،وذلك من خلال التركيز على ظهور كلمتي الزاني والزانية في الجانب العملي الفعلي من صفة الشخص ،أو في الصفة البارزة فيه لدى الناس ،أمّا من كان الزنى حالةً طارئةً في حياته ،ثم ابتعد عنه وتاب إلى ربّه ،فلا تصدق عليه الكلمة فعلاً ،بل يصح سلبها عنه ،ما يجعله خارجاً عن مدلول الآية .
رفض إقامة العلاقات بين المؤمنين والزناة
النقطة الثالثة: إننا نفهم من هذه الآية ،في ما توحي به ،أنّ ما تضمنته من رفض العلاقة بين المؤمنين وبين الزناة ،ظهوراً باللفظ أو بالإيحاء ،يمثل لوناً من ألوان العقوبة الاجتماعية على جريمة الزنى ،وذلك بالتأكيد على أن مجتمع الزناة هو مجتمع معزول في طبيعة العلاقات ،لأن علاقة أفراده محصورة ببعضهم البعض ،أو بمن يماثلهم في النهج العملي ،أما المجتمع المؤمن ،فلا يقيم علاقة بهم من قريب أو من بعيد ،لأنه ينظر إليهم نظرة الطيّب إلى الخبيث ،بما تعنيه العفّة من معنى الطيبة والطهارة ،وفي ما يعنيه الزنى من معنى الخبث والقذارة ..
وربما استطعنا أن نستفيد من ذلك خطاً عملياً للمؤمنين يؤسس القاعدة التي تنطلق منها علاقاتهم بالآخرين ،وهي الالتزام الأخلاقي الذي يتمثل في السلوك ،فهو ما يوحّد المجتمعات أو يقرب بينها ،لأن الله يريد أن يوحي للإنسان المؤمن بأن المبادئ التي يؤمن بها هي الجسر الذي يربطه بالآخرين ،لا مجرّد النوازع الذاتية التي تشكلها المشاعر والمصالح ،ما يفرض مقاطعة المنحرفين والكافرين روحياً انطلاقاً من الحاجز النفسي الذي يفصله عنهم ،بحيث لا تمثل العلاقة الخارجية التي تفرضها الأوضاع العامة عمقاً روحياً يشد الناس المؤمنين إلى هؤلاء ،لتكون مجرد حالةٍ طارئة من حالات الحياة الاجتماعية العامة .