قوله تعالى:{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
قد قدّمنا مرارًا أن من أنواع البيان التي تضمّنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً ،ويكون في نفس الآية قرينة دالَّة على عدم صحة ذلك القول ،ذكرنا هذا في ترجمة الكتاب وذكرنا فيما مضى من الكتاب أمثلة كثيرة لذلك ،ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة .
وإيضاح ذلك: أن العلماء اختلفوا في المراد بالنكاح في هذه الآية ،فقال جماعة: المراد بالنكاح في هذه الآية: الوطء الذي هو نفس الزنى ،وقالت جماعة أخرى من أهل العلم: إن المراد بالنكاح في هذه الآية هو عقد النكاح .قالوا: فلا يجوز لعفيف أن يتزوّج زانية كعكسه ،وهذا القول الذي هو أن المراد بالنكاح في الآية: التزويج لا الوطء في نفس الآية قرينة تدلّ على عدم صحّته ،وتلك القرينة هي ذكر المشرك والمشركة في الآية ؛لأن الزاني المسلم لا يحلّ له نكاح مشركة ،لقوله تعالى:{وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [ البقرة: 221] ،وقوله تعالى:{لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [ الممتحنة: 10] قوله تعالى:{وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[ الممتحنة: 10] ،وكذلك الزانية المسلمة لا يحلّ لها نكاح المشرك ؛لقوله تعالى:{وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ}[ البقرة: 221] ،فنكاح المشركة والمشرك لا يحلّ بحال .وذلك قرينة على أن المراد بالنكاح في الآية التي نحن بصددها الوطء ،الذي هو الزنى ،لا عقد النكاح ؛لعدم ملاءمة عقد النكاح لذكر المشرك والمشركة ،والقول بأن نكاح الزاني للمشركة والزانية للمشرك ،منسوخ ظاهر السقوط ؛لأن سورة «النور » مدنية ،ولا دليل على أن ذلك أُحلّ بالمدينة ،ثم نسخ .والنسخ لا بدّ له من دليل يجب الرجوع إليه .
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة
اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز نكاح العفيف الزانية ،ونكاح العفيفة الزاني ،فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمّة الثلاثة إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية عند مالك وأصحابه ،ومن وافقهم ،واحتجّ أهل هذا القول بأدلّة:
منها عموم قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [ النساء: 24] ،وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة ،وعموم قوله تعالى:{وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ} [ النور: 32] الآية ؛وهو شامل بعمومه الزانية أيضًا والعفيفة .
ومن أدلّتهم على ذلك: حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما: أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ،فقال: إن امرأتي لا تردّ يد لامس ،قال: «غرّبها » ،قال: أخاف أن تتبعها نفسي ؟قال: «فاستمتع بها » .قال ابن حجر في «بلوغ المرام » في هذا الحديث ،بعد أن ساقه باللفظ الذي ذكرنا: رواه أبو داود ،والترمذي ،والبزار ورجاله ثقات ،وأخرجه النسائي من وجه آخر ،عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ،بلفظ قال: «طلّقها » ،قال: لا أصبر عنها ،قال: «فأمسكها » ،اه من «بلوغ المرام » .وفيه تصريح ابن حجر بأن رجاله ثقات ،وبه تعلم أن ذكر ابن الجوزي لهذا الحديث في الموضوعات فيه نظر ،وقد ذكره في الموضوعات مرسلاً عن أبي الزبير ،قال:"أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم ،فقال: إن امرأتي ..."الحديث ،ورواه أيضًا مرسلاً عن عبيد بن عمير ،وحسان بن عطية كلاهما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،ثم قال: وقد حمله أبو بكر الخلال على الفجور ،ولا يجوز هذا ؛وإنما يحمل على تفريطها في المال لو صحّ الحديث .
قال أحمد بن حنبل:"هذا الحديث لا يثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،ليس له أصل .انتهى من موضوعات ابن الجوزي ،وكثرة اختلاف العلماء في تصحيح الحديث المذكور وتضعيفه معروفة ".
وقال الشوكاني في «نيل الأوطار »: ولا ريب أن العرب تكني بمثل هذه العبارة ،عن عدم العفة عن الزنى ،يعني بالعبارة المذكورة قول الرجل: إن امرأتي لا تردّ يد لامس ،اه .وما قاله الشوكاني وغيره هو الظاهر ؛لأن لفظ: لا تردّ يد لامس ،أظهر في عدم الامتناع ممن أراد منها ما لا يحلّ كما لا يخفى ،فحمله على تفريطها في المال غير ظاهر ؛لأن إطلاق لفظ اللامس على أخذ المال ليس بظاهر ،كما ترى .
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له: الحديث المذكور في المرأة التي ظهر عدم عفتها ،وهي تحت زوج ،وكلامنا الآن في ابتداء النكاح لا في الدوام عليه ،وبين المسألتين فرق ،كما سترى إيضاحه إن شاء اللَّه تعالى .
ثم اعلم أن الذين قالوا بجواز تزويج الزانية والزاني أجابوا عن الاستدلال بالآية التي نحن بصددها ،وهي قوله تعالى:{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ،من وجهين:
الأول: أن المراد بالنكاح في الآية هو الوطء الذي هو الزنى بعينه ،قالوا: والمراد بالآية تقبيح الزنى وشدّة التنفير منه ؛لأن الزاني لا يطاوعه في زناه من النساء إلا التي هي في غاية الخسّة لكونها مشركة لا ترى حرمة الزنى أو زانية فاجرة خبيثة .
وعلى هذا القول فالإشارة في قوله تعالى:{وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ،راجعة إلى الوطء الذي هو الزنى ،أعاذنا اللَّه وإخواننا المسلمين منه كعكسه ،وعلى هذا القول فلا إشكال في ذكر المشركة والمشرك .
الوجه الثاني: هو قولهم: إن المراد بالنكاح في الآية التزويج ،إلا أن هذه الآية التي هي قوله تعالى:{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} الآية ،منسوخة بقوله تعالى:{وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ} [ النور:32] الآية ،وممن ذهب إلى نسخها بها: سعيد بن المسيّب ،والشافعي .وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية ،ما نصّه: هذا خبر من اللَّه تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية ،أو مشركة ،أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك ،وكذلك الزانية لا ينكحها إلا زان ،أي: عاص بزناه ،أو مشرك لا يعتقد تحريمه .
قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة ،عن سعيد بن جبير ،عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما:{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ،قال:"ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها ،إلا زان أو مشرك "،وهذا إسناد صحيح عنه ،وقد روي عنه من غير وجه أيضًا ،وقد روي عن مجاهد وعكرمة ،وسعيد بن جبير ،وعروة بن الزبير ،والضحاك ،ومكحول ،ومقاتل بن حيان ،وغير واحد نحو ذلك ،انتهى محل الغرض منه بلفظه .
فتراه صدر بأن المراد بالنكاح في الآية: الجماع ،لا التزويج .وذكر صحته عن ابن عباس الذي دعا له النبيّصلى الله عليه وسلم اللَّه أن يعلّمه تأويل القرآن .وعزاه لمن ذكر معه من أجلاّء المفسّرين ،وابن عباس رضي اللَّه عنهما من أعلم الصحابة بتفسير القرآن العظيم ،ولا شكّ في علمه باللغة العربية .
فقوله في هذه الآية الكريمة بأن النكاح فيها هو الجماع لا العقد يدلّ على أن ذلك جار على الأسلوب العربي الفصيح ،فدعوى أن هذا التفسير لا يصحّ في العربية ،وأنه قبيح ،يردّه قول البحر ابن عباس كما ترى .
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: وقد روي عن ابن عباس وأصحابه ،أن النكاح في هذه الآية: الوطء .
واعلم أن إنكار الزجاج لهذا القول في هذه الآية ،أعني القول بأن النكاح فيها الجماع ،وقوله: إن النكاح لا يعرف في القرآن ،إلا بمعنى التزويج ،مردود من وجهين:
الأول: أن القرآن جاء فيه النكاح بمعنى الوطء ،وذلك في قوله تعالى:{فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [ البقرة:230] ،وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ،بأن معنى نكاحها له مجامعته لها ،حيث قال: «لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » ،ومراده بذوق العسيلة: الجماع ،كما هو معلوم .
الوجه الثاني: أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ،يطلقون النكاح على الوطء ،والتحقيق: أن النكاح في لغتهم الوطء .قال الجوهري في صحاحه: النكاح الوطء ،وقد يكون العقد ،اه .وإنما سموا عقد التزويج نكاحًا ؛لأنه سبب النكاح أي الوطء ،وإطلاق المسبب ،وإرادة سببه معروف في القرآن ،وفي كلام العرب ،وهو مما يسمّيه القائلون بالمجاز ،المجاز المرسل كما هو معلوم عندهم في محله ،ومن إطلاق العرب النكاح على الوطء ،قول الفرزدق:
وذات حليل أنكحتها رماحنا ***حلال لمن يبني بها لم تطلق
لأن الإنكاح في البيت ليس المراد به عقد التزويج ،إذ لا يعقد على المسبيات ،وإنما المراد به الوطء بملك اليمين والسبي مع الكفر ،ومنه قوله أيضًا:
وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن ***لها خاطب إلا السنان وعامله
فالمراد بالنكاح في هذا البيت هو الوطء بملك اليمين ،لا العقد كما صرّح بذلك بقوله: ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله .
وقوله:
إذا سقى اللَّه قومًا صوب غادية ***فلا سقى اللَّه أهل الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم ***والناكحين بشطي دجلة البقرا
ومعلوم أن نكاح البقر ليس معناه التزويج .
قالوا: ومما يدلّ على أن النكاح في الآية غير التزويج ،أنه لو كان معنى النكاح فيها التزويج لوجب حدّ المتزوّج بزانية ؛لأن زان ،والزاني يجب حدّه .وقد أجمع العلماء على أن من تزوّج زانية لا يحدّ حدّ الزنى ،ولو كان زانيًا لحدّ حدّ الزنى .فافهم ،هذا هو حاصل حجج من قالوا إن النكاح في الآية الوطء ،وأن تزويج العفيف الزانية ليس بحرام ،كعكسه .
وقالت جماعة أخرى من أهل العلم: لا يجوز تزويج الزاني لعفيفة ولا عكسه ،وهو مذهب الإمام أحمد ،وقد روي عن الحسن وقتادة ،واستدلّ أهل هذا القول بآيات وأحاديث .
فمن الآيات التي استدلّوا بها هذه الآية التي نحن بصددها ،وهي قوله تعالى:{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ،قالوا: المراد بالنكاح في هذه الآية: التزويج ،وقد نصّ اللَّه على تحريمه في قوله:{وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ،قالوا: والإشارة بقوله:{ذالِكَ} ،راجعة إلى تزويج الزاني بغير الزانية أو المشركة وهو نصّ قرآني في تحريم نكاح الزاني العفيفة ،كعكسه .
ومن الآيات التي استدلّوا بها قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [ المائدة: 5] ،قالوا: فقوله{مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ،أي: أعفاء غير زناة .ويفهم من مفهوم مخالفة الآية أنه لا يجوز نكاح المسافح الذي هو الزاني لمحصنة مؤمنة ،ولا محصنة عفيفة من أهل الكتاب ،وقوله تعالى:{فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [ النساء: 25] .فقوله:{مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [ النساء: 25] ،أي: عفائف غير زانيات ،ويفهم من مفهوم مخالفة الآية ،أنهن لو كنّ مسافحات غير محصنات ،لما جاز تزوّجهن .
ومن أدلّة أهل هذا القول أن جميع الأحاديث الواردة في سبب نزول آية{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية ،كلّها في عقد النكاح وليس واحد منها في الوطء ،والمقرّر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول .وأنه قد جاء في السنّة ما يؤيّد صحّة ما قالوا في الآية ،من أن النكاح فيها التزويج ،وأن الزاني لا يتزوّج إلا زانية مثله ،فقد روى أبو هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله » ،وقال ابن حجر في بلوغ المرام في حديث أبي هريرة هذا: رواه أحمد ،وأبو داود ورجاله ثقات .
وأمّا الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية:
فمنها ما رواه عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن رجلاً من المسلمين استأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أُمّ مهزول ،كانت تسافح ،وتشترط له أن تنفق عليه ،قال: فاستأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو ذكر له أمرها ،فقرأ عليه نبيّ اللَّه:{وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} ،رواه أحمد .
وقال الشوكاني في «نيل الأوطار » ،في شرحه لهذا الحديث: وقد عزاه صاحب المنتقى لأحمد وحده ،وحديث عبد اللَّه بن عمرو أخرجه أيضًا الطبراني في الكبير والأوسط .قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات .
ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه ،عن جده: أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكّة ،وكانت بمكّة بغي يقال لها عناق ،وكانت صديقته ،قال: فجئت النبيّ صلى الله عليه وسلم ،فقلت: يا رسول اللَّه أنكح عناقًا ؟قال: فسكت عني ،فنزلت:{وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} ،فدعاني فقرأها عليّ ،وقال: «لا تنكحها » .رواه أبو داود ،والنسائي والترمذي .
قال الشوكاني في «نيل الأوطار » ،في كلامه على حديث عمرو بن شعيب هذا الذي ذكره صاحب المنتقى ،وعزاه لأبي داود والنسائي والترمذي ،وحديث عمرو بن شعيب حسّنه الترمذي وساق ابن كثير في تفسير هذه الآية الأحاديث التي ذكرنا بأسانيدها ،وقال في حديث عمرو بن شعيب هذا: قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه ،وقد رواه أبو داود ،والنسائي في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد اللَّه بن الأخنس به .
قالوا: فهذه الأحاديث وأمثالها تدلّ على أن النكاح في قوله:{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ،أنه التزويج لا الوطء ،وصورة النزول قطعية الدخول ؛كما تقرّر في الأصول .قالوا: وعلى أن المراد به التزويج ،فتحريم نكاح الزانية والزاني منصوص في قوله تعالى:{وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
وقال ابن القيّم في «زاد المعاد » ،ما نصّه: وأمّا نكاح الزانية فقد صرّح اللَّه سبحانه وتعالى بتحريمه في سورة «النور » ،وأخبر أن من نكحها فهو إما زانٍ أو مشرك ،فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه ،ويعتقد وجوبه عليه أو لا ،فإن لم يلتزمه ،ولم يعتقده فهو مشرك ،وإن التزمه واعتقد وجوبه ،وخالفه فهو زان ،ثم صرح بتحريمه ،فقال:{وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ،ولا يخفى أن دعوى النسخ للآية بقوله:{وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ} [ النور: 32] ،من أضعف ما يقال ،وأضعف منه حمل النكاح على الزنى .
إذ يصير معنى الآية: الزاني لا يزنى إلا بزانية أو مشركة ،والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك ،وكلام اللَّه ينبغي أن يصان عن مثل هذا ،وكذلك حمل الآية على امرأة بغي مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها ،كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان ،وهو العفة ،فقال:{فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [ النساء: 25] ،فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها ،وليس هذا من دلالة المفهوم ،فإن الابضاع في الأصل على التحريم ،فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع ،وما عداه فعلى أصل التحريم .انتهى محل الغرض من كلام ابن القيّم .
وهذه الأدلّة التي ذكرنا هي حجج القائلين بمنع تزويج الزاني العفيفة كعكسه ،وإذا عرفت أقوال أهل العلم ،وأدلّتهم في مسألة نكاح الزانية والزاني ،فهذه مناقشة أدلّتهم .
أمّا قول ابن القيم: إن حمل الزنا في الآية على الوطء ينبغي أن يصان عن مثله كتاب اللَّه ،فيردّه أن ابن عباس وهو في المعرفة باللغة العربية وبمعاني القرآن صحّ عنه حمل الزنى في الآية على الوطء ،ولو كان ذلك ينبغي أن يصان عن مثله كتاب اللَّه لصانه عنه ابن عباس ،ولم يقل به ولم يخف عليه أنه ينبغي أن يصان عن مثله .
وقال ابن العربي في تفسير ابن عباس للزنى في الآية بالوطء: هو معنى صحيح ،انتهى منه بواسطة نقل القرطبي عنه .
وقول ابن القيم في كلامه هذا الذي ذكرنا عنه: فإن لم يتلزمه ،ولم يعتقده فهو مشرك يقال فيه: نعم هو مشرك ،ولكن المشرك لا يجوز له نكاح الزانية المسلمة ،وظاهر كلامك جواز ذلك ،وهو ليس بجائز فيبقى إشكال ذكر المشرك والمشركة واردًا على القول بأن النكاح في الآية التزويج ،كما ترى .
وقول ابن القيّم في كلامه هذا: وليس هذا من باب دلالة المفهوم ،فإن الابضاع في الأصل على التحريم فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع وما عداه فعلى أصل التحريم يقال فيه: إن تزويج الزانية وردت نصوص عامة تقتضى جوازه ؛كقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [ النساء:24] وهو شامل بعمومه للزانية والعفيفة والزاني والعفيف ،وقوله:{وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ} [ النور:32] فهو أيضًا شامل بعمومه لجميع من ذكر ،ولذا قال سعيد بن المسيّب: إن آية{وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى} الآية ،ناسخة لقوله تعالى:{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} الآية ،وقال الشافعي: القول في ذلك كما قال سعيد من نسخها بها .
وبما ذكرنا يتّضح أن دلالة قوله:{مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [ النساء:25] ،على المقصود من البحث من باب دلالة المفهوم كما أوضحناه قريبًا ؛لأن العمومات المذكورة لا يصح تخصيص عمومها إلا بدليل منطوقًا كان أو مفهومًا ،كما تقدّم إيضاحه .
وأمّا قول سعيد بن المسيّب والشافعي ،بأن آية:{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ،منسوخة بقوله:{وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ} [ النور: 32] فهو مستبعد ؛لأن المقرّر في أصول الشافعي ومالك وأحمد هو أنه لا يصحّ نسخ الخاص بالعام ،وأن الخاص يقضى على العام مطلقًا ،سواء تقدم نزوله عنه أو تأخّر ،ومعلوم أن آية{وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ} [ النور:32] الآية ،أعمّ مطلقًا من آية:{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} الآية ،فالقول بنسخها لها ممنوع على المقرّر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين ،وإنما يجوز ذلك على المقرّر في أصول أبي حنيفة رحمه اللَّه ،كما قدمنا إيضاحه في سورة «الأنعام » ،وقد يجاب عن قول سعيد ،والشافعي بالنسخ بأنهما فهماه من قرينة في الآية ،وهي أنه لم يقيد الأيامى الأحرار بالصلاح ،وإنما قيّد بالصلاح في أيامى العبيد والإماء ،ولذا قال بعد الآية:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ}[ النور:32] .
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له: هذه الآية الكريمة من أصعب الآيات تحقيقًا ؛لأن حمل النكاح فيها على التزويج ،لا يلائم ذكر المشركة والمشرك ،وحمل النكاح فيها على الوطء لا يلائم الأحاديث الواردة المتعلّقة بالآية ،فإنها تعين أن المراد بالنكاح في الآية: التزويج ،ولا أعلم مخرجًا واضحًا من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسّف ،وهو أن أصحّ الأقوال عند الأصوليين كما حرّره أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن ،وعزاه لأجلاّء علماء المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على معنييه ،أو معانيه ،فيجوز أن تقول: عدا اللصوص البارحة على عين زيد ،وتعني بذلك أنهم عوّروا عينه الباصرة وغوّروا عينه الجارية ،وسرقوا عينه التي هي ذهبه أو فضّته .
وإذا علمت ذلك ،فاعلم أن النكاح مشترك بين الوطء والتزويج ،خلافًا لمن زعم أنه حقيقة في أحدهما ،مجاز في الآخر كما أشرنا له سابقًا ،وإذا جاز حمل المشترك على معنييه ،فيحمل النكاح في الآية على الوطء ،وعلى التزويج معًا ،ويكون ذكر المشركة والمشرك على تفسير النكاح بالوطء دون العقد ،وهذا هو نوع التعسّف الذي أشرنا له ،والعلم عند اللَّه تعالى .
وأكثر أهل العلم على إباحة تزويج الزانية والمانعون لذلك أقلّ ،وقد عرفت أدلّة الجميع .
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن من نزوّج امرأة يظنها عفيفة ،ثم زنت وهي في عصمته أن أظهر القولين: أن نكاح لا يفسخ ،ولا يحرم عليه الدوام على نكاحها ،وقد قال بهذا بعض من منع نكاح الزانية مفرّقًا بين الدوام على نكاحها ،وبين ابتدائه .واستدلّ من قال هذا بحديث عمرو بن الأحوص الجشمي رضي اللَّه عنه ،أنه شهد حجّة الوداع مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،فحمد اللَّه ،وأثنى عليه وذكر ووعظ ،ثم قال: «استوصوا بالنساء خيرًا ،فإنهن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربًا غير مبرح ،فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً » .
قال الشوكاني في حديث عمرو بن الأحوص هذا: أخرجه ابن ماجه والترمذي وصححه ،وقال ابن عبد البرّ في الاستيعاب في ترجمة عمرو بن الأحوص المذكور: وحديثه في الخطبة صحيح ،اه .وحديثه في الخطبة هو هذا الحديث ،بدليل قوله: فحمد اللَّه وأثنى عليه وذكر ووعظ ،وهذا التذكير والوعظ هو الخطبة كما هو معروف .
ومن الأدلّة على هذا الحديث المتقّدم قريبًا ،الذي فيه: أن الرجل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا تردّ يد لامس ،فقال: «طلّقها ،فقال: نفسي تتبعها ،فقال: أمسكها » ،وبيّنا الكلام في سنده ،وأنه في الدوام على النكاح ،لا في ابتداء النكاح ،وأن بينهما فرقًا ،وبه تعلم أن قول من قال: إن من زنت زوجته ،فسخ نكاحها وحرمت عليه خلاف التحقيق ،والعلم عند اللَّه تعالى .
الفرع الثاني: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي ،أنه لا يجوز نكاح المرأة الحامل من الزنا قبل وضع حملها بل لا يجوز نكاحها ،حتى تضع حملها .خلافًا لجماعة من أهل العلم قالوا: يجوز نكاحها وهي حامل ،وهو مروي عن الشافعي وغيره ،وهو مذهب أبي حنيفة ؛لأن نكاح الرجل امرأة حاملاً من غيره فيه سقي الزرع بماء الغير ،وهو لا يجوز ويدلّ لذلك قوله تعالى:{وَأُوْلَاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [ الطلاق:4] ،ولا يخرج من عموم هذه الآية إلا ما أخرجه دليل يجب الرجوع إليه ،فلا يجوز نكاح حامل حتى ينتهي أجل عدّتها ،وقد صرّح اللَّه بأن الحوامل أجلهن أن يضعن حملهن ،فيجب استصحاب هذا العموم ،ولا يخرج منه إلا ما أخرجه دليل من كتاب أو سنّة .
الفرع الثالث: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي أن الزانية والزاني إن تابا من الزنا وندما على ما كان منهما ونويا أن لا يعودا إلى الذنب ،فإن نكاحهما جائز ،فيجوز له أن ينكحها بعد توبتهما ،ويجوز نكاح غيرهما لهما بعد التوبة ؛لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ،ويدلّ لهذا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مُهانا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يُبدِّل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} بالفرقانك 68-70] ،فقد صرّح جلّ وعلا في هذه الآية أن الذين يزنون ومن ذكر معهم إن تابوا وآمنوا ،وعملوا عملاً صالحًا يبدّل اللَّه سيّئاتهم حسنات ،وهو يدلّ على أن التوبة من الزنا ،تذهب أثره .فالذين قالوا: إن من زنا بامرأة لا تحلّ له مطلقًا ،ولو تابا وأصلحا فقولهم خلاف التحقيق ،وقد وردت آثار عن الصحابة بجواز تزويجه بمن زنى بها إن تابا ،وضرب له بعض الصحابة مثلاً برجل سرق شيئًا من بستان رجل آخر ،ثم بعد ذلك اشترى البستان فالذي سرقه منه حرام عليه ،والذي اشتراه منه حلال له ،فكذلك ما نال من المرأة حرامًا فهو حرام عليه ،وما نال منها بعد التوبة والتزويج حلال له ،والعلم عند اللَّه تعالى .
واعلم أن قول من ردّ الاستدلال بآية:{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ} بالفرقان: 68] الآية .قائلاً: إنها نزلت في الكفار لا في المسلمين ،يردّ قوله: أَن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ،كما أوضحنا أدلّته من السنّة الصحيحة مرارًا ،والعلم عند اللَّه تعالى .
الفرع الرابع: اعلم أن الذين قالوا بجواز نكاح العفيف الزانية ،لا يلزم من قولهم أن يكون زوج الزانية العفيف ديوثًا ؛لأنه إنما يتزوّجها ليحفظها ،ويحرسها ،ويمنعها من ارتكاب ما لا ينبغي منعًا باتًّا بأن يراقبها دائمًا ،وإذا خرج ترك الأبواب مقفلة دونها ،وأوصى بها من يحرسها بعده فهو يستمتع بها ،مع شدّة الغيرة والمحافظة عليها من الريبة ،وإن جرى منها شيء لا علم له به مع اجتهاده في صيانتها وحفظها فلا شيء عليه فيه ،ولا يكون به ديوثًا ،كما هو معلوم .وقد علمت ممّا مرّ أن أكثر أهل العلم على جواز نكاح العفيف الزانية كعكسه ،وأن جماعة قالوا بمنع ذلك .
والأظهر لنا في هذه المسألة أن المسلم لا ينبغي له أن يتزوّج إلا عفيفة صينة ،للآيات التي ذكرنا والأحاديث ويؤيّده حديث: «فاظفر بذات الدين تربت بداك » ،والعلم عند اللَّه تعالى .