هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة . أي:لا يطاوعه على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة ، لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك:( الزانية لا ينكحها إلا زان ) أي:عاص بزناه ، ( أو مشرك ) لا يعتقد تحريمه .
قال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما:( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) قال:ليس هذا بالنكاح ، إنما هو الجماع ، لا يزني بها إلا زان أو مشرك .
وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد روي عنه من غير وجه أيضا . وقد روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، والضحاك ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد ، نحو ذلك .
وقوله تعالى:( وحرم ذلك على المؤمنين ) أي:تعاطيه والتزويج بالبغايا ، أو تزويج العفائف بالفجار من الرجال .
وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس:( وحرم ذلك على المؤمنين ) قال:حرم الله الزنى على المؤمنين .
وقال قتادة ، ومقاتل بن حيان:حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا ، وتقدم في ذلك فقال:( وحرم ذلك على المؤمنين )
وهذه الآية كقوله تعالى:( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) [ النساء:25] وقوله ( محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) الآية [ المائدة:5] ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب ، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح ، حتى يتوب توبة صحيحة; لقوله تعالى:( وحرم ذلك على المؤمنين )
وقال الإمام أحمد:حدثنا عارم ، حدثنا معتمر بن سليمان قال:قال أبي:حدثنا الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها:"أم مهزول "كانت تسافح ، وتشترط له أن تنفق عليه - قال:فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو:ذكر له أمرها - قال:فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) .
وقال النسائي:أخبرنا عمرو بن علي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو قال:كانت امرأة يقال لها:"أم مهزول "وكانت تسافح ، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها ، فأنزل الله عز وجل:( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) .
[ و] قال الترمذي:حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا روح بن عبادة بن عبيد الله بن الأخنس ، أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال:كان رجل يقال له "مرثد بن أبي مرثد "وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة . قال:وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها "عناق "، وكانت صديقة له ، وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله . قال:فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال:فجاءت "عناق "فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط ، فلما انتهت إلي عرفتني ، فقالت:مرثد؟ فقلت:مرثد فقالت:مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة . قال:فقلت يا عناق ، حرم الله الزنى . فقالت يا أهل الخيام ، هذا الرجل يحمل أسراكم . قال:فتبعني ثمانية ودخلت الحندمة فانتهيت إلى غار - أو كهف فدخلت فيه فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا ، فظل بولهم على رأسي ، فأعماهم الله عني - قال:ثم رجعوا ، فرجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر ، ففككت عنه أكبله ، فجعلت أحمله ويعينني ، حتى أتيت به المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله ، أنكح عناقا؟ أنكح عناقا؟ - مرتين - فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد علي شيئا ، حتى نزلت ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا مرثد ، ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة [ والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك] ) فلا تنكحها "ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وقد رواه أبو داود والنسائي ، في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد الله بن الأخنس ، به .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا مسدد أبو الحسن ، حدثنا عبد الوارث ، عن حبيب المعلم ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله ".
وهكذا أخرجه أبو داود في سننه ، عن مسدد وأبي معمر - عبد الله بن عمرو - كلاهما ، عن عبد الوارث ، به .
وقال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب ، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن أخيه عمر بن محمد ، عن عبد الله بن يسار - مولى ابن عمر - قال:أشهد لسمعت سالما يقول:قال عبد الله:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة لا يدخلون الجنة ، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة:العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة - المتشبهة بالرجال - والديوث . وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة:العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى ".
ورواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يزيد بن زريع ، عن عمر بن محمد العمري ، عن عبد الله بن يسار ، به .
وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا الوليد بن كثير ، عن قطن بن وهب ، عن عويمر بن الأجدع ، عمن حدثه ، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال:حدثني عبد الله بن عمر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة حرم الله عليهم الجنة:مدمن الخمر ، والعاق ، والديوث الذي يقر في أهله الخبث ".
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده:حدثنا شعبة ، حدثني رجل - من آل سهل بن حنيف - ، عن محمد بن عمار ، عن عمار بن ياسر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنة ديوث ".
يستشهد به لما قبله من الأحاديث .
وقال ابن ماجه:حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سلام بن سوار ، حدثنا كثير بن سليم ، عن الضحاك بن مزاحم:سمعت أنس بن مالك يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يقول] "من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا ، فليتزوج الحرائر ".
في إسناده ضعف .
قال الإمام أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتاب "الصحاح في اللغة:"الديوث القنذع وهو الذي لا غيرة له .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب "النكاح "من سننه:أخبرنا محمد بن إسماعيل بن علية ، عن يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة وغيره ، عن هارون بن رئاب ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير - وعبد الكريم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس - عبد الكريم رفعه إلى ابن عباس ، وهارون لم يرفعه - قالا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:إن عندي امرأة [ هي] من أحب الناس إلي وهي لا تمنع يد لامس قال:"طلقها ". قال:لا صبر لي عنها قال:"استمتع بها "، ثم قال النسائي:هذا الحديث غير ثابت ، وعبد الكريم ليس بالقوي ، وهارون أثبت منه ، وقد أرسل الحديث وهو ثقة ، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم . .
قلت:وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث ، وقد خالفه هارون بن رئاب ، وهو تابعي ثقة من رجال مسلم ، فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي . لكن قد رواه النسائي في كتاب "الطلاق "، عن إسحاق بن راهويه ، عن النضر بن شميل عن حماد بن سلمة ، عن هارون بن رئاب ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس مسندا ، فذكره بهذا الإسناد ، رجاله على شرط مسلم ، إلا أن النسائي بعد روايته له قال:"وهذا خطأ ، والصواب مرسل "ورواه غير النضر على الصواب .
وقد رواه النسائي أيضا وأبو داود ، عن الحسين بن حريث ، أخبرنا الفضل بن موسى ، أخبرنا الحسين بن واقد ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وهذا إسناد جيد .
وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مضعف له ، كما تقدم ، عن النسائي ، وكما قال الإمام أحمد:هو حديث منكر .
وقال ابن قتيبة:إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلا . وحكاه النسائي في سننه ، عن بعضهم فقال:وقيل:"سخية تعطي "، ورد هذا بأنه لو كان المراد لقال:لا ترد يد ملتمس .
وقيل:المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس ، لا أن المراد أن هذا واقع منها ، وأنها تفعل الفاحشة; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها . فإن زوجها - والحالة هذه - يكون ديوثا ، وقد تقدم الوعيد على ذلك . ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد ، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها . فلما ذكر أنه يحبها أباح له البقاء معها; لأن محبته لها محققة ، ووقوع الفاحشة منها متوهم فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهم الآجل ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
قالوا:فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج ، كما قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله:
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن ابن أبي ذئب ، قال:سمعت [ شعبة] - مولى ابن عباس ، رضي الله عنه - قال:سمعت ابن عباس وسأله رجل قال:إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عز وجل علي ، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة ، فأردت أن أتزوجها ، فقال أناس:إن الزاني لا ينكح إلا زانية . فقال ابن عباس:ليس هذا في هذا ، انكحها فما كان من إثم فعلي .
وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الآية منسوخة ، قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب . قال:ذكر عنده ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) قال:كان يقال:نسختها [ الآية] التي بعدها:( وأنكحوا الأيامى منكم ) [ النور:32] قال:كان يقال الأيامى من المسلمين .
وهكذا رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الناسخ والمنسوخ "له ، عن سعيد بن المسيب . ونص على ذلك أيضا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله .