{رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} ،لأن حضور الله في ذواتهم أقوى من حضور أي شيءٍ غيره فيهم ،من الأشخاص أو الأعمال التي تشغل الناس وتهيمن على حياتهم .فهم إذا ذكروا الناس ذكروا الله معهم باعتبار أنهم عباده المخلوقون له ،المتحركون في تدبيره ،المتقلّبون في نعمه ...وإذا ذكروا التجارة ذكروا حدود الله وموقع رزقه فيها ،في ما يريد لعباده أن يتحركوا فيه من مواطن رزقه ،ولذلك فإن عملهم في البيع والتجارة لا يشغلهم عن ذكر الله بل يزيدهم ارتباطاً به .وتلك هي الشخصية التي يريد الله للناس أن يعيشوا ملامحها الأصيلة في ذواتهم ،بحيث تكون علاقتهم بالله أقوى من كل علاقاتهم الأخرى ،وتكون هي العلاقة الوحيدة الأصيلة التي تخضع لها كل العلاقات الأخرى على مستوى القرب والبعد ،والقوّة والضعف ،فلا يستغرقون في أيّ شيء آخر بعيداً عن الله ،بل يكون استغراقهم به هو الذي يحدد لهم مدى الاستغراق في شؤون الآخرين والأشياء الأخرى .
{وَإِقَامِ الصّلاةِ} ،وهي العبادة التي يعيش معها الإنسان حضور الله في كل كيانه وحياته ،{وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ} وهي العطاء المادي المنطلق من روحية العطاء الروحي ،الذي تتحول فيه العبادة لله والرغبة في القرب إليه إلى حركة إنفاق على الفئات المحرومة ،وبذلك تخرج العبادة من حالة الاستغراق الذاتي المجرد في آفاق الله ،لتصبح حالةً في الواقع العملي الذي يتصل بحياة الإنسان نفسه ،وبحياة الآخرين .
{يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والأَبْصَارُ} ،وذلك في ما تواجهه من فزع وهول يوم القيامة ،فتضطرب وتشخص وتهتز وتزيغ ،على النهج الذي جاءت به الآية في قوله تعالى:{وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [ الأحزاب: 10] .وربما قيل بأن المراد بتقلب القلوب والأبصار هو تقلّب أحوالها وتغيّرها ،فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها لا تفقه ،وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً لا تبصر ،«فتنصرف القلوب والأبصار يومئذ عن المشاهدة والرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله الساترة للحق والحقيقة ،إلى سنخٍ آخر من المشاهدة والرؤية ،وهو الرؤية بنور الإيمان والمعرفة ،فيتبصر المؤمن بنور ربّه ،وهو نور الإيمان والمعرفة ،فينظر إلى كرامة الله ،ويعمى الكافر ولا يجد إلا ما يسوؤه » ،أمّا «توصيف اليوم بقوله:{تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَْبْصَارُ}على هذا الرأيلبيان سبب الخوف ،فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلّب القلوب والأبصار ،وإنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقّيه من الحرمان من نور الله والنظر إلى كرامته ،وهو الشقاء الدائم والعذاب الخالد ،وفي الحقيقة يخافون أنفسهم » .
ولكن الظاهر هو الوجه الأول ،لأن المسألة المطروحة هي الخوف الذي يدفع إلى الانضباط على خط الطاعة والتقوى ،ما يجعل القضية قضية الهول الذي يواجههم في يوم القيامة ،الذي تكرر الحديث عنه في القرآن ،كما في قوله تعالى:{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [ الإنسان:10] ،لأن الصفة التي يؤكدها القرآن في حديثه عن يوم القيامة ،هي الجوّ المرعب الذي يحكم ذلك اليوم ؛والله العالم .