{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً} فكان كل فريق شيعة لشخص ،وملتزماً بدين ،ومتحركاً في نطاق دائرة خاصة تختلف عن الدوائر التي يتحرك فيها الأفرقاء الآخرون ،وانطلق كل واحد منهم يتحزب لصاحبه ودينه ودائرته ويتعصب لمواقعه الخاصة{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} فهم مستغرقون في داخل ذواتهم وأوضاعهم وانتماءاتهم ،لا يلتفتون إلى ما لدى الآخرين ،ولا ينطلقون إلى معرفة الحقيقة في آفاقها الواسعة ،ولا يدخلون في حوارٍ حول ما يفكرون به أو يتحركون فيه أو يتوجهون إليه ،ليتعرفوا وجه الخطأ والصواب في ذلك كله ،بل يظلون في استغراقهم الغافل الذاهل الذي يفرح بما لديهم كاستغراق الطفل في فرحه الطفولي بما يملكه من ألعاب العبث الذي يشغله عن كل شيء .
بين الحزبية للناس والحزبية لله
ولعلّ هذا التعبير القرآني في هذه الفقرة من الآية ،هو أبلغ تعبير عما تمثله العقلية الحزبية المتعصبة عندما يستغرق أصحابها في ذواتهم وأصنامهم وأطماعهم وحدودهم الضيقة في خط الأنانية الفردية والجماعية المحدودة ،ما يجعل الناس منغلقين عن بعضهم البعض ،مشغولين بالفرح الأناني بما عندهم ،وهذا هو الذي توحي به حزبية الأشخاص والأطماع والمصالح الخاصة .أمّا الانتماء إلى الله وإلى دينه الذي يمثل الانفتاح على المسؤولية في الحياة وعلى الناس ،فإنه لا يغلق حياة الإنسان عن الآخرين ،يل يفسح له المجال للانفتاح على كل المواقع الإنسانية .وبذلك يعيش الفرح الروحي بالله وبرسله وبكتبه ،وبالمسؤولية المتحركة في مواقع الحياة كلها .ولكن ،لا بد من الحذر من النوازع الذاتية التي قد تطغى وتسيطر على الأفكار الرسالية ،فتنحرف بها عن شمول الحياة وامتدادها .
إن المسألة المطروحة في المنهج القرآني ،هي أن يرجع الإنسان إلى صفاء الفطرة ونقائها ،ولا يستغرق في وحول الأطماع ونوازع الذات ،حتى يعيش مع إنسانيته ،ولا يسقط أمام بهيميته ،ليفكر بالرسالة قبل أن يفكر بالشهوة والذات .
المراد من لفظ الدين
وقد اختلف المفسرون اختلافاً كبيراً في هذه الآية حول بعض مفرداتها .ونريد الإشارة إلى ما ذكره البعض من تفسير الدين بأنه: «الأصول العلمية والسنن والقوانين العملية التي تضمن باتخاذها والعمل بها سعادة الإنسان الحقيقية » ،باعتبار أن ذلك هو «من اقتضاءات الخلقة الإنسانية » «وينطبق على التشريع والتكوين » .
والظاهر أن المراد بالدين هو التوحيد الذي يمثل القاعدة التي انطلقت فيها الرسالات لتؤكدها كحقيقة إيمانية ،تتفرع منها كل التفاصيل التي تربط الحياة كلها بالله ،في مواجهة الشرك الذي يجعل الإنسان موزعاً بين الأهواء المختلفة ،والخطوط المتباينة ،والانتماءات المتنوعة ،مما يوقعه في الحيرة ،ويسلّمه للضياع .وهذا هو ما توحي به الآية وما بعدها ،وما تدل عليه الآيات المتعددة المتفرقة في أكثر من سورة في الحديث عن ملّة إبراهيم حنيفاً ،التي تلتقي مع هذه الآية في الجوّ وفي بعض مفردات التعبير ،وما تؤكد عليه الآيات المتحدثة عن دعوة الأنبياء التي تلتقي عند نداءٍ واحدٍ حول عبادة الله الواحد الذي لا إله غيره .
وقد وردت الأحاديث عن أئمة أهل البيت لتؤكد ذلك ،كما جاء في حديث هشام بن سالم عن أبي عبد الله «جعفر الصادق »( ع ) قال: قلت:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قال: التوحيد .
وفي الدر المنثور روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله( ص ):{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قال: دين الله .
والظاهر أن هذه الرواية لا تنافي ما قلناه ،لأن دين الله الذي أراد لكل رسله أن يبلغوه هو التوحيد في العقيدة وفي العبادة ،الذي تتفرع منه كل التفاصيل في دائرة المبدأ .