تلك هي مشكلة الكثيرين من الناس الذين لا يؤمنون بالله ،أو الذين يشركون بالله غيره ،هي أنهم لا يتعاملون مع قضايا المعرفة من عمق النظرة للأشياء ،بل يتحركون فيها من موقع السطح ،ولذلك فإنهم لا ينظرون إلى الحقيقة الكامنة في الآخرة ،بل يبقون مشدودين إلى المشاهد المثيرة ،والأضواء البرّاقة من الحياة الدنيا ،فيبتعدون بذلك عن معرفة الله ورسله وكتبه وشرائعه ،ويتهربون من مسؤولية الحياة كلها في آفاق الله ،ما يجعل من المسألة مسألةً تتصل بالمنهج لا بالجانب الذاتي التجريدي من المعرفة .
ولهذا كان هذا الفصل من السورة حركةً قرآنيةً تحمل الكثير من اللمسات واللمعات والإشارات التي تثير في داخل الإنسان الكثير من الأفكار ،وترسم الكثير من علامات الاستفهام حول القضايا المتصلة بالله وبالآخرة وبالمسؤولية في قضية المصير وتتحدث عن هؤلاء الذين لا يعلمون .
بعض الناس عن الآخرة غافلون
{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في ألوانها وزخارفها ومظاهرها ولذائذها وشهواتها وأوضاعها وامتيازات الناس الظاهرة فيها ،ولكنهم لا ينفذون إلى عمقها ليعرفوا ما في داخلها من آلامٍ وحزن وقبائح وأشجانٍ ،وليتلمسوا كيف يواجهون الأفراح المختلطة بالأحزان ،واللذات الممتزجة بالآلام ،والورود المحاطة بالأشواك ،ليعرفوا أن المسؤولية التي يخضع الإنسان لها في حياته ،هي التي تجعل لهذا المزيج معنىً معقولاً وروحاً طيّبةً ،تكون الحياة من خلالهما ذات معنىً يلتقي بالأهداف الكبيرة للإنسان ،وذلك هو الذي يتمثل بالوعي الكامن في فكرة الآخرة ،كعقيدة ومصير ونهاية ،ولكنهم لا يفهمون ذلك كله ،لأنهم يستغرقون في الجانب الظاهر من الحياة الدنيا .{وَهُمْ عَنِ الآخرةِ هُمْ غَافِلُونَ} لأنهم لا يلتفتون إلا إلى الجانب المادي الذي يتصل بالقضايا بشكلٍ مباشر ،ولا يتطلعون إلى الجوانب الروحية الكامنة في معنى الغيب الذي يطل على آفاق الله الرحبة الممتدة التي تتجاوز الدنيا إلى الآخرة ،لتأخذ من فناء الدنيا فكرة الخلود للاخرة .وهكذا تحجبهم شواغل الحياة الدنيا عن التفكير في الآخرة ،وفي المسؤولية التي تختزنها في معناها الداخلي ،وإذا كف الناس عن تحريك الفكر في اتجاه المعرفة ،وعن إثارة المعرفة في أجواء الإيمان ،فإنهم سوف يفقدون التوازن في الموقف ،ويبتعدون عن الخط المستقيم في الحياة ،ولهذا جاءت الآيات المتتابعة لتدعوهم إلى التفكير في كل شيء .