{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ} أي على أهل سبأ ،أو كل من كان على شاكلتهم ممن كفر بالله وتمرد عليه{إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} فقد توعّد بني آدم ،بأن يغويهم ويضلّهم ويبعدهم عن الصراط المستقيم ،وكان يفكر بتحقيق ذلك بوسائله الخاصة التي يغري بها الناس ،فيحرّك وساوسهم بوساوسه ،ويثير غرائزهم بمغرياته ،ويحسّن لهم السوء بتزيينه ،ويقبّح لهم الحسن بأضاليله ،وكان يغلب على ظنه النجاح من خلال دراسته للأجواء المحيطة بالواقع .وهكذا كان ظنه يصدق مع فريق ،ويكذب مع فريق آخر ،ولكن الكثيرين هم الذين يسقطون في حبائله ،ويخضعون لإغراءاته ،وهؤلاء هم الكافرون والعصاة والمتمردون على الله ،الذين زَيَّن لهم الشيطان طريق الباطل ،{فَاتَّبَعُوهُ} وأطاعوه{إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} الذين انفتحوا على الله من مواقع الحق المشرق في آفاق الفكر الواعي الممتد في كل رحاب الحياة ،يزينون الأمور بموازينها ،ويقيسون القضايا المتنازع عليها بمقاييسها الدقيقة ،ويناقشون الأفكار بحكمة ،ويبلورون القناعات بعمقٍ وصفاءٍ ...هؤلاء الذين لا يدخلون الغرائز في آفاق العقيدة ،ولا يثيرون الأفكار في ساحة الشهوات ،ولا يحركون المواقف في أجواء الأطماع ،بل يضعون كل شيءٍ موضعه ،فللفكر موقعه ،وللغريزة مواقعها ،ففي الفكر عمق الانتماء وامتداد القناعة ،وفي الغريزة حاجة الحسّ وغذاء الجسد ،فلا يختلط موقع أحدهما بموقع الآخر ،لتتوازن القضايا عندهم في طبيعتها ،وتتركز في نتائجها .