مناسبة النزول
عن قتادة قال: كانواأي أهل الجاهليةلا يورثون النساء ،فنزلت{وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدَنِ وَالاَْقْرَبُونَ}
وعن عكرمة قال: نزلت في أم كُحَّة وابنة كحة وثعلبة وأوس بن سويد ،وهم من الأنصار ،كان أحدهم زوجها ،والآخر عمّ ولدها ،فقالت: يا رسول الله ،توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورّث ،فقال عمّ ولدها: يا رسول الله ،لا تركب فرساً ،ولا تحمل كلاًّ ،ولا تنكأ عدوّاً ،يُكسب عليها ولا تكتسب ،فنزلت:{لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} .وقال ابن زيد: «كان النساء لا يرثن في الجاهلية من الاباء ،وكان الكبير يرث ،ولا يرث الصغير ،وإن كان ذكراً » ،فنزلت الآية .
الإرث في الإسلام
في هذه الآية إجمالٌ لما سيفصله القرآن في هذه السورة من النظام الإسلامي للإرث ؛وقد أكدت على خط الإسلام في إعطاء المرأة نصيباً مفروضاً من التركة ،كما هو الحال في إعطاء الرجل نصيباً منهاقليلاً كان أو كثيراًلأنه لا فرق بينهما في الأساس الذي ارتكز عليه هذا النظام ،وإن افترقا في بعض التفاصيل في ما سنفصّله من حديث ؛وذلك على خلاف النظام المتبع في الجاهلية من منع المرأة حقها من ذلك لكونها لا تقدّم شيئاً للمعركة مما يقدّمه الرجل في الدفاع عن العشيرة ،ولا تقدٍّم شيئاً للإنتاج في ما يقدِّمه للعائلة من جهده الذاتي ؛فكان الإرث للأبناء ،وربما كان للولد الأكبر بالذات ،لأنه الذي يقوم مقام الأب في رعاية شؤون العائلة .في المقابل لا تنطلق النظرة الإسلامية من المكاسب التي يحصل عليها الآخرون من خلال الوارث ،ليكون ذلك هو الفارق في إعطاء هذا الحق ؛بل ترتكز على أساس المفهوم الإسلامي في العلاقات الإنسانية بين الأرحام ،وفي نظريته في توزيع الثروة ،مما يجعل دور المرأة والرجل على حدّ سواء من ناحية المبدأ .
{لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ} أي حصةٌ وسهمٌ من دون فرقٍ بين الكبار والصغار{مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاَْقْرَبُونَ} من المال الذي بقي له من مجموع ما كان عنده فتركه وارتحل ،والأقربون هم القرابة الأدنون ،{وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاَْقْرَبُونَ} أي جميع النساء ومن غير تخصيص ،فلهنَّ الحق بالإرث كموردٍ خاص من التركة ،لأن موقع المرأة في الحقوق الإنسانية المرتبطة بعنصر القرابة لا يختلف عن موقع الرجل ،وإذا كان للرجل دورٌ مهمٌ في الحياة الاقتصادية ،فإنّ لها دوراً لا ينقص عنه في الأهمية ،فلولا رعايتها للبيت في كل شؤونه وحضانتها للأولاد وعنايتها بالزوج والأب والولد والأم والأخ ،لما استطاع الرجل أن يتفرغ لعمله الإنتاجي .هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،فإن للمرأة أكثر من فرصة للإنتاج في عملها اليدوي والذهني في مختلف مجالات الواقع الاقتصادي ،كما أن لها أكثر من دور في عملية المواجهة للعدوّ ،وتحمل أثقال المسؤوليات العامة والخاصة ،في الحالات التي تتوفر فيها الظروف المحيطة لتحقيق الشروط اللازمة للقيام بذلك في الحرب والسلم ،لأن الواقع الذي كانت تعيش فيه المرأة أبعدها عن ساحة الحركة الفاعلة في القضايا العامة{مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} أي من كل ما يتركه الميت من قليل المال وكثيره ،لأن القضية ليست في حجم المال بل في المبدأ ،{نَصِيباً مَّفْرُوضاً} أي حطّا لازماً في الحدود الشرعية التي فرضها الله للوارثين .
وقد أثارت هذه الآية جدلاً فقهياً بين المسلمين ،فقد استدل بها على بطلان القول بالعصبةكما في مجمع البيانلأن الله تعالى فرض الميراث للرجال وللنساء ،فلو جاز منع النساء من الميراث في موضع لجاز أن يجري الرجال مجراهنّ في المنع من الميراث[ 5] ،فكما أن الطبقة المتأخرة من الرجال لا يشاركون الطبقة المتقدمة ،والإخوة لا يشاركون الأولاد ،فكذلك الأمر في النساء ،فلا مجال لمشاركة إخوة الميت للبنات ،أو الأعمام والأخوال للأخوات .
واستدل بها على أن ذوي الأرحام يرثون لأنهم من جملة النساء والرجال الذين مات عنهم الأقربون كما استدل بها على عموم حكم الإرث للأنبياء ولغيرهم ،فلا يختص غير النبي بالإرث ليخرج منه النبي ،خلافاً لما ذهب إليه البعض من أن الأنبياء لا يورثون أولادهم شيئاً .
وقفة تأمل أمام نظام الإرث في الإسلام
وقد يكون من المفيدفي هذا المجالأن نقف وقفة تأمل ،لنفهم الأسس الإنسانية والاقتصادية التي انطلق منها الإسلام في هذا النظام الاقتصادي من شريعته .وهنا نتناول ثلاث نقاط:
الأولى: إن المفهوم الإسلامي لعلاقات القرابة بين الآباء والأبناء ،أو بين ذوي القربى ،أو بين الأزواج ،هو أنها تمثل خليَّةحيَّةمنخلايا المجتمع تحقق لأفراده نوعاً من الترابط الروحي والعاطفي والاقتصادي ،سواء كان ذلك في نطاق الحياة التي يعيشون فيها معاً ،فيما تفرضه عليهم العلاقات من مسؤوليات ،أو كان ذلك في نطاق الذين تركوا الحياة تجاه الذين لا زالوا يعيشون فيها .ففي الحالة الأولى ،هناك تنظيمٌ لعلاقة الأب والأم بولدهما ،وبالعكس ،في وجوب الإنفاق ؛فيجب على الطرف القادر مالياً أن يعيل غير القادر ،من دون اعتبار لعامل السنّ ؛وكذلك الحال في علاقة الزوجة بزوجها ،ولكن من طرف الزوج لا من جانب الزوجة .وفي الحالة الثانية ،هناك تخطيط لتوزيع التركة على الأقرباء أو الأزواج ،من أجل إبقاء الامتداد العملي للعلاقة محفوظاً بعد الموت .
لماذا لا يكون الإرث للدولة ؟
ولكن قد يثار سؤال في هذا المجال ،لماذا كل هذه التعقيدات والمشاكل المتنوعة التي يثيرها نظام الإنفاق في داخل العائلة ،أو نظام الإرث في توزيع التركة ؟ولماذا لا تكون التركة كلها للدولة ،أو يكون الإنتاج كله لها ،لتضع للأمة تخطيطاً تفصيلياً يضع الحلول للمشاكل في النطاق الطبيعي الذي يدرس الأمور بطريقةٍ واقعيةٍ تملك القدرة على تنفيذه ،في ما تملكه الدولة من إمكانات التخطيط والتنفيذ ،بينما نجد هذا النظام يجعل الأمور في نطاق المسؤوليات الفردية المرتكزة على أساس العلاقات الخاصة ،مما يحدِث إرباكاً في طريقة التوزيع والتنفيذ ؟
ونجيب عن ذلك أن من أهداف التشريع الإسلامي في الأمور المالية والعبادية والاجتماعية ،هو تربية الإنسان على القيم التي يريد إثارتها في تكوينه الإنساني ؛الأمر الذي يجعل النتائج التربوية والعملية الحاصلة من قيام الأفراد بمسؤولياتهم تجاه بعضهم البعض بشكلٍ مباشر ،لا تحصل للمجتمع من جعل الأمور كلها بيد الدولة .وقد يكون من بين هذه الأهداف تعميق الروابط الروحية والعملية بين أفراد المجتمع ليُبنى المجتمع على أساس ثابت متين .
فإذا أعطينا الدولة كل المسؤوليات ،ولم نجعل للأفراد أية مسؤولية تجاه الآخرين ،فإنّ ذلك يسببّ التقاء العلاقات كلها بالدولة ،وعدم وجود أساسٍ قويٍّ لنشوء علاقات متينة بين أفراد المجتمع إلا بشكل جزئي ؛فلا تبقى هناك بين الأب وأولاده أو بين الزوج وزوجته ،سوى العلاقات العاطفية التي لا يتاح لها الامتداد والعمق ،لفقدان عنصر المسؤولية في ذلك كله ؛وبهذا يتحول الناس إلى أفرادٍ ترعاهم الدولة أو مجتمعٍ تتحكّم سلطتها في علاقاته ،فتتمثل فيها الأوضاع الرسمية القانونية بعيداً عن الروحية الحقيقية الخالصة ؛وهذا ما كنا نشاهده في المجتمعات الشيوعية والرأسمالية التي جردّت الإنسان من كثير من مسؤولياته الفردية تجاه الآخرين ،مما خفف روحه وعاطفته وحوّله الى مجرد شيء من الأشياء ،ولم تعد العلاقات الإنسانية بالمستوى الذي يعيش فيه الإنسان الشعور العميق بمسؤوليته تجاه الإنسان الآخر ،خارج نطاق المصالح والأطماع الخاصة .
وربما كان السر في ذلك ،أن العاطفة الطبيعيةوحدهالا توحي بحركة المسؤولية في الداخل في مستوى العمق ،إذا لم نمنحها الفرصة الكافية للتدرُّب على الممارسة والتعبير في أوضاعٍ اجتماعيةٍ متنوّعة ؛فإن الابتعاد عن ذلك في أساليب التربية ،يبعد الفرد عن الإحساس المتواصل بالآخرين في آلامهم وآمالهم ،أمّا إذا عاش المسؤولية في القضايا الصغيرة أو الكبيرة من ناحيةٍ إلزاميةٍ ،من خلال ما تفرضه الواجبات والمحرمات ؛أو من ناحيةٍ غير إلزاميةٍ ؛من خلال ما تفرضه المستحبات أو المكروهات ،فإن القضية تختلف ،لأن ذلك يحقق له التنمية الروحية في صلته بالآخرين ،في ما يفكر لهم ،أو ما يخطط لقضاياهم ،أو ما يمارسه معهم ،في مواقع العطاء الروحي والمادي ...فإذا التقت المسؤولية بخط الإيمان بالله ،وتحركت على أساس الحصول على رضا الله ،بما يمثله ذلك من الشعور بالمسؤولية أمامه في رعايته لعباده ،كانت النتائج أكثر عمقاً وأشد تأثيراً .
وقد نضيف إلى هذا العنصر عنصراً آخر يتعلق بالطرف الآخر الذي تتعلق المسؤولية بحياته ؛فإن وجود شخصٍ معينٍ مسؤولٍ عنه ،يجعله يشعر بالحماية والرعاية الخاصة ،مما يبعده عن مشاعر القلق والضياع والحيرة والارتباك ،ويعمّق العلاقة بينهما .وهذا قد لا يتحقق فيما إذا كانت المسؤولية كلها من شؤون الدولة ،التي قد تضيع كثيراً من حقوق الإنسان وحاجاته ،أو تؤخّرها إلى وقت طويل .ولعل التجربة الإنسانية الطويلة التي عاشها الإنسان في ظل هذا التشريع ،تستطيع أن تعطينا الفكرة الواضحة عن نجاح هذا الاتجاه في التشريع ،بالرغم من بعض السلبيات الجزئية فيه .
وفي الحالة الثانيةحالة العلاقة بالذين تركوا هذه الحياة تجاه الذين لا يزالون أحياءً من بعدهميعيش الإنسان الشعور بامتداد العلاقة الإنسانية بينه وبين أولئك الناس ،لأنه يجدها في كل هذا الإرث الذي بقي له في ما يأكله أو يلبسه أو يسكن فيه أو يستمتع به .وبهذا يشعر كل جيلفي عملية تعاقب الأجيالبقيمة الجيل السابق بالنسبة إليه ،سواءٌ في ذلك القيمة العلمية والسياسية من خلال ما يتركه له من علمٍ أو من موقعٍ سياسي ؛أو القيمة المادية من خلال ما يتركه من إرث مادي شخصي أو عام .وقد يدفع هذا الجو الذاتي الإنسان قبل موته إلى مضاعفة جهوده في الإنتاج ليستطيع ضمان مستقبل هؤلاء الناس الذين يعيشون بعده من أولاده أو من غيرهم ،الأمر الذي يعطي الحياة معنى أسمى ويعمّق التعاطف الداخلي بينه وبينهم ،ليتجاوز حالة الحياة إلى ما بعد الموت ،في عمليةٍ لتحريك التاريخ الشخصي في عمق الواقع الإنساني المتحرك .
النقطة الثانية: إن الإرث يعتبر إحدى الوسائل الإسلامية التي أراد منها الإسلام تفتيت الثروة لئلا تتجمع في يد شخص واحد ،خلافاً للطريقة المألوفة في الجاهلية عندما كانت تفرض انتقال الثروة للولد الأكبر ،بكل ما فيها من العوامل السلبية ،في ما تمثّله من إفسادٍ وظلمٍ واستغلالٍ للآخرين .وإذا اقتضت الصدفة أن تنتقل التركة إلى وارث واحد في مرحلةٍ من المراحل ،فإن رحلة الحياة والموت في المراحل الأخرى تتكفل بتوزيعها بين أكثر من شخص ،وهكذا حتى تذوب في نهاية المطاف .ولعل هذا الأسلوب يعطي نوعاً من الحيوية في الجانب التبادليّ للقضاء أو السيطرة على تجمّع الثروة في يد إنسان واحد ،والعمل على أن تتحرك لمصالحة الحياة الفرديّة في المجتمع .
النقطة الثالثة: إن نظام الإرثفي الإسلامنهض على أساس التخطيط للمسؤوليات وللحقوق في المجتمع ؛وفي هذا الاتجاه كانت حصة الرجل أكثر من حصة المرأة ،من دون أن يكون في ذلك انتقاص لإنسانية المرأة ،بل كل ما هناك أن القضية متعلقة بحيوية نظام الأسرة في المجتمع ،في ما يريده الإسلام لها من الارتكاز على الأسس العاطفية والواقعية والروحية ،من خلال ما وضعه للرجل من مسؤوليات ،تلتقي مع حقوق المرأة التي تفرض الأمومة عليها أعباءً ووظائف لا تسمح لها بتحمّل المسؤولية في الإنفاق على نفسها وزوجها وأولادها ،وهذا ما راعاه الإسلام في توزيع التركة ،حيث جعل للرجل حصتين في مقابل حصة واحدة للمرأة ،من أجل تغطية مصاريف الرجل التي فرض عليه تقديمها للمرأة ،وأضاف المهر الذي تأخذه من الرجل في عقد الزواج ؛مما يوحي بأن حصة المرأة قد تزيد على حصة الرجل في النهاية ،لأن عملية الحساب في مثل هذه الأمور ،تخضع للتوازن بين الحقوق والواجبات .وعلى هذا الأساس ،ينبغي لنا فهم مسألة الإرث في التشريع الإسلامي ،لنضعها في مكانها الطبيعي من مصلحة الإنسان في المجتمع .
وقد جاء في المعاني بإسناده الى محمد بن سنان: إنّ أبا الحسن الرضا( ع ) كتب إليه ،في ما كتب ،من جواب مسائله علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال في الميراث: «لأن المرأة إذا تزوجت أخذت والرجل يعطي ،فلذلك وفر على الرجال ،وعلةٌ أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى لأن الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت ،وعليه أن يعولها وعليه نفقتها ،وليس على المرأة أن تعول الرجل ،ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فّوفر على الرجال لذلك ،وذلك قول الله عز وجل:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ} » .
وفي الكافي بإسناده عن الأحول قال: «قال لي ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضّعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرّجال سهمين ؟قال فذكر بعض أصحابنا لأبي عبد اللهجعفر الصادق( ع ) ،فقال: إن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة وإنّما ذلك على الرّجال ،ولذلك جعل للمرأة سهماً واحداً ،وللرجل سهمين »[