هذا حديث أهل النار الذين يتوسلون إلى الله أن يخرجهم من هذا المأزق الذي وضعوا فيه أنفسهم بكفرهم وعنادهم ،وردّ عليهم بأنه لا مجال لذلك ،وأن الأمر لله الذي يملك الأمر كله ،ويرجع إليه الخلق في كل شيء .{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} فقد كانت هناك حالتان من الموت وحالتان من الحياة ،واختلف المفسرون في تحديد هاتين الإماتتين وهذين الإحياءين ..فذهب بعضهم إلى أن الموتة الأولى هي التي تسبق وجود الإنسان ،والموتة الثانية هي التي تأتي بعد وجوده ،لتكون الحياة الأولى هي الحياة في الدنيا ،أمّا الحياة الثانية فهي حياة الإنسان بعد البعث في الدار الآخرة .
ما المراد بالموتتين والإحياءين ؟
وذهب بعضهم إلى أن الموتة الأولى هي الإماتة عن الحياة الدنيا ،والإحياء للبرزخ ،ثم الإماتة عن البرزخ والإحياء للحساب يوم القيامة ،وقد ذكر هذا البعض أن هؤلاء «لم يتعرضوا للحياة الدنيا ولم يقولوا: وأحييتنا ثلاثاً وإن كانت إحياءً ،لكونها واقعةً بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح ،لأن مرادهم ذكر الإحياء الذي هو سبب الإيقان بالمعاد وهو الإحياء في البرزخ ثم في القيامة ،وأما الحياة الدنيوية فإنها وإن كانت إحياءً ،لكنها لا توجب بنفسها يقيناً بالمعاد ،فقد كانوا مرتابين في المعاد ،وهم أحياء في الدنيا »[ 1] .
ولعل الأقرب إلى الذهن من خلال بعض الآيات القرآنية هو المعنى الأول ،فقد جاء في قوله تعالى:{وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ما يعني أن الله يعبر عن الحالة التي تسبق الحياة الدنيا بالموت ،مع ملاحظة أنَّ القرآن لم يذكر شيئاً واضحاً عن حياة البرزخ وموته إلا في قوله تعالى:{وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} الأمر الذي يجعل الذهن متطلعاً إلى هذا العالم في حياته وموته من خلال الأسلوب القرآني ..
وقد ذكر صاحب الكشاف الذي اختار الوجه الذي استقربناه ،تعليقاً على ذلك: «فإن قلت: كيف صح أن يسمّي خلقهم أمواتاً إماتةً ؟قلت: كما صح أن تقول: سبحان من صغّر جسم البعوضة وكبّر جسم الفيل ،وقولك للحفّار: ضيّق فم الركية ووسّع أسفلها ،وليس ثمَّ نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر ،ولا من ضيقٍ إلى سعةٍ ،ولا من سعةٍ إلى ضيق ،وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات ،والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معاً على المصنوع الواحد ،من غير ترجّح لأحدهما ،وكذلك الضيق والسعة ،فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ،فجعل صرفه عنه كنقله منه »[ 2] .
أما ما ذكره صاحب الميزان شاهداً على تفسيره ،بأن المراد ذكر الإحياء الذي هو سبب الإيمان بالمعاد ،وهو الإحياء بالبرزخ ثم في القيامة دون الحياة الدنيا التي لم تكن سبباً في الإيمان بالمعاد لأنهم كانوا مرتابين ،وهم في داخلها ؛فقد نلاحظ عليه ،أن هذا التحوّل من الحياة الدنيا إلى الآخرة ،بالموت ،ربما جعلهم يعيدون التفكير في أمر الحياة والموت بالطريقة التي تثبت قدرة الله على إرجاع الإنسان إلى الحياة بعد الموت ،كما كان قادراً على إحيائه بعد الموت الذي كان غافلاً عنه في الدنيا لاستغراقه في المألوف ،ما جعل الآيات تتكرر تذكيراً للإنسان بأن الله الذي بدأ الخلق ،قادر على أن يعيده ..وبذلك تتكامل النظرة عندهم للمسألة الإلهية في قضية الحياة والموت ،ليفكروا بعد التجربة الحيّة في الدار الآخرة ،بحركة الحياة والموت في قدرة الله ،والله العالم .
اعتراف أهل النار بذنوبهم
{فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} ورجعنا إليك في إيمانٍ صادقٍ وتوبةٍ خاشعةٍ لأننا أدركنا الحقيقة الإيمانية الواضحة بعد أن كنا غافلين عنها{فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} لنتبع دعوتك من جديد ،من خلال هذا الوضوح في الرؤية الذي تحوّل في وجداننا إلى فيضٍ من الإشراق الروحي بعظمة الله .وقد لا يكون هذا الكلام سؤالاً يبحث عن جواب ،بل هو تعبير عن حَيْرةٍ وإحباط إنسان غلبه اليأس والقنوط .