{فَوَسْوَسَ}: الوسوسة: الصوت الخفي المكروه ،وقد يراد بها هنا ما يجده الإنسان في نفسه من الخواطر الضارّة .
{لِيُبْدِيَ}: الإبداء: الإظهار وهو جعل الشيء على صفة ما يصحّ أن يدرك ،وضده: الإخفاء ،وكل شيء أزيل عنه الساتر فقد أبدي .
{وُورِيَ} الشيء: غُطّي وستر .والمواراة: جعل الشيء وراء ما يستره ،ومثله المساترة وضده المكاشفة .
{سَوْءَاتِهِمَا}: السوأة: ما يسوء الإنسان ؛والمراد بها هنا العورة ،حيث يسوؤه ظهورها .
التوهّم علَّة الانحراف
ولكنّ إبليس ،الذي أخرجه الله من الجنة ،ومنعه أن يسكنها ،كان يملك الاقتراب منها ،أو التردّد عليها ،فعمل على أن يثير في داخلهما الأفكار التي تجعل من هذه الشجرة قضيّةً مهمةً ذات أبعادٍ كبيرةٍ في حياتهما ،وأن يحوّل هذا السلام الداخلي والصفاء الروحياللذين يعيشانهما في علاقتهما باللهإلى حالةٍ عنيفةٍ من الهمّ والقلق والتطلُّع إلى آفاق موهومةٍ يفتحها الخيال الذي يريد إثارته في أحلامهما .وتلك هي قصّة الأحلام السعيدة في أكثر مظاهرها ،فهي تتحرك من مواقع الخيال الذي يتحرك في النفس كما يتحرك الضباب ،فيحسّ معه الإنسان بسحر الغموض الذي لا يطيق معه أن يخرج إلى مطالع النور ،وكلّما زادت خيالات الإنسان ،كلما ابتعدت الصورة الحقيقية عن وجدانه ،لأنه يعطيها ضخامة لا تملكها ،وسحراً لا تحتويه .وهذا ما يزيّن المعصية لدى الإنسان ،عندما يتحرك للاعتداء على ما يملكه غيره ،مما يملك مثله ،على أساس الخيالات التي تصوّر له أنه يتميز عمّا لديه .وهذا ما عبّر عنه الإمام علي( ع ) عندما كان جالساً بين أصحابه ذات يوم ،فمرّت امرأة جميلة ،فرمقها القوم بأبصارهم ،فقال لهم: «إن أبصار هذه الفحول طوامح وإن ذلك سبب هبابها ،فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله ،فإنما هي امرأة كامرأته » .
هذا ما يريد أن يثيره في أنفسهم ..ليس هناك فرقٌ بين الشهوة التي يحصل عليها من الاتصال بامرأته أو من الاتصال بامرأة أخرى ،إلا في ما يثيره الخيال في نفس الإنسان من أوهام ،بما تحدثه من أحاسيس ومشاعر حميمة لا أساس لها .وهذا ما بدأه إبليس في تجربته الأولى لإغواء آدم وحوّاء ؛فقد عاشا في الجنّة ،ولا فكرة لهما عن المستقبل ،ولا عن الحياة والموت ،أو عن الخلود والفناء ،ولا طموح لهما في مسألة الملك والرفعة ؛فهما هنا في الجنة في رضوان الله ونعيمه ،يعيشان السعادة والطمأنينة والسلام الروحي دون مشكلة{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} بطريقته الخاصة ،وأثار في داخلهما الإحساس بفكرةٍ جديدةٍ لم تخطر لهما على بال ؛فهما هنافي الجنةيستمتعان بكل شيءٍ فيها ،ما عدا هذه الشجرة ،فلماذا المنع عن هذه الشجرة بالذات ؟لا بد أن هناك سراً خفياً وراء ذلك ،فما هو هذا السر ؟!وكانا يسيران عاريين لا يلتفتان إلى شيء يميز عضواً عن عضو في جسديهما مما يثير الحياء والخجل .وبدأت الأخيلة الجديدة تثير علامات الاستفهام أمامهما ...ما هذا وما ذاك ؟وما دور هذا ،وما دور ذاك ...وتحوّلت الوسوسة الخفية الدائمة ،إلى حالةٍ من القلق الخفيف الذي يزحف على المشاعر فيحرّكها في حالةٍ من التوتر والارتباك ...واستمر إبليس في إثارة الوسوسة في داخلهما{لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَتِهِمَا} ليعيشا هذا الهاجس العضوي في جسديهما .{وَقَالَ مَا نَهَكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَلِدِينَ} وأثار في داخلهما طموح الملك والسيطرة والخلود ،وربط ذلك بالشجرة ،فهي تحمل في ثمرها سرّ الخلود والملك .فانطلقا إليها بكل شوقٍ ولهفةٍ ،وأطبقت عليهما الغفلة عن مواقع أمر الله ونهيه ،لأن الإنسان إذا استغرق في مشاعره وطموحاته الذاتية ،واستسلم لأحلامه الخياليّة ،نسي ربّه ،ونسي موقعه منه ،وأصبح يفكّر في الاتجاه الواحد الذي يقوده إليها بعيداً عن كل مسؤولية .