/م15
المفردات:
حشر: جمع .
يوزعون: يحبس أولهم ليلحق آخرهم ،فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد .
التفسير:
17-{وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون}
كان لسليمان جيش كبير ،في غاية النظام والترتيب ،يصطف الإنس ثم الجن ،وتصطف الطير فوق رءوسهم لحمايتهم من وهج الشمس ،ولكل فئة من الثلاث قائد أو وازع ينظمهم ،ويحبس أوّلهم حتى يحضر آخرهم .
ومعنى: يُوزعُون .أي: يحبسون ويمنعون من المضي حتى يتلاحقوا ويجتمعوا .
والإيزاع: الحث على الوزع ،وهو الكفّ والمنع .
ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن .
وقول الشاعر:
ومن لم يزعه لبّه وحياؤه *** فليس له من شيب فوديه وازع
لقد أعطى الله سليمان ملكا لم يعطه لأحد من بعده ،مثل ملك الجن والريح والطير ،استجابة لدعائه ،{قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص*وآخرين مقرنين في الأصفاد} [ ص: 35-38] .
وقال تعالى:{ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير*يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ..} [ سبأ 12 ، 13]
كل هذا الملك ،والجيوش المتعددة الأنواع ،ومعرفة لغة الطير ،وتسخير الجن ،والتفوق في القضاء ،قابله داود بالشكر والعرفان .
قال تعالى:{اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور} [ سبأ: 13]
وعندما رأى سليمان عرش بلقيس مستقرا عنده ،قال:{هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم} [ النمل: 40]
عبرة بالآية
جاء في أحكام القرآن لابن العربي –تعليقا على قول عثمان: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن- قد جهل قوم المراد بهذا الكلام ،فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن ،وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ،فإن الله تعالى ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق ،ولكن الظلمة خاسوا بها ،وقصروا عنها ،وأتوا ما أتوا بغير نية منها ،ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها ،فلم يرتدع الخلق بها ،ولو حكموا العدل ،وأخلصوا النية ،لاستقامت الأمور ،وصلح الجمهور .
لغة الطير
يتسابق العلماء الآن في معرفة لغة الطير والحيوانات ،وقد علمها الله تعالى لسليمان ،وأشار القرآن إلى تنظيم أمة النحل وأمة النمل ،وأمثالها من الأمم ،حيث قال تعالى:{وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ..} [ الأنعام: 38] .
وقد سبق القرآن الكشوف العلمية ،وأيدته المشاهدة ،فالنحل له ملكة تدبر أمره ،وتسوسه ،وبلغ من دقة إدراكه أنه يصنع بيوتا مسدسة الأضلاع لتجميع عسله فيها ،بمقاييس غاية في الدقة ،وبالجملة فدراسة مملكة النحل وأمته تحير الأفكار ،ومثلها النمل وجميع الكائنات الحية ،ومن أغرب المشاهدات تلك الطيور ،التي تقطع آلاف الأميال في موسم الشتاء طلبا للدفء والرزق ،ثم تعود أدراجها في مواسم معينة ،إلى نفس العش الذي تركته ،فوق مبنى أو فوق شجرة ،ولا تخطئ طريقها ،وكل طائفة تسير خلف نذيرها ومرشدها ،وهي تطير على هدى إدراك داخلي أقوى من [ الرادار] ،لقد ألهمها الخالق سبحانه البحث عن رزقها ،والسير في الفضاء والهواء ،بإلهام من الله العلي القدير ،وتجد أنواعا من السمك ،تهاجر آلاف الأميال ،لتضع البيض ،ثم يفقس البيض ،ويتحول إلى سمك ،ويبدأ السمك رحلة العودة من حيث جاءت أصوله ،فسبحان الذي ألهم هذه الكائنات ،أسرار وجودها ،وطريقة حياتها ،ونظام معيشتها ،بما يفيد أن وراء هذا الكون البديع ،يدا حانية تحفظ وجوده ،وتدعّم تماسكه وتقدر أقواته ،وانظر إلى قوله تعالى:{قال فمن ربكما يا موسى*قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [ طه: 49 ،50] .
وقال تعالى:{وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} [ فصلت: 10] .