/م47
المفردات:
فرشناها: بسطناها ،ومهَّدناها ،من مهدتُ الفراش: إذا بسطته ووطأته .
تمهيد الأمور ،تسويتها وإصلاحها .
التفسير:
48-{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} .
جعل الله السماء سقفا مرفوعا ،وجعل الأرض فراشا ممهدا للإنسان ،يحيا عليها الإنسان والحيوان والنبات ،والطيور والزواحف والحشرات وغيرها ،وفي هذه الأرض أرزاق وأقوات ومنافع متعددة ،فمن طينة الأرض يتخذ الإنسان المساكن والحصون ،ومن معادن الأرض الظاهرة والباطنة يصنع الحليّ والسلاح ،وآلات الحرب والسفن والطائرات .
وفي القرآن الكريم ما يفيد أنَّ الأرض خلقت أولا ،ثم خلقت السماء ثانيا كما نجد ذلك في سورة فصلت .
قال تعالى:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ .} ( فصلت: 9-12 ) .
وفي سورة النازعات نجد ما يفيد أن السماء خلقت أولا ،ثم دحيت الأرض .
قال تعالى:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ .} ( النازعات: 27-33 ) .
ويمكن الجمع بين الآيات على النحو التالي:
( أ ) خلق الله الأرض أولا غير مدحوّة .
( ب ) خلق السماء ثانيا بعد خلق الأرض .
( ت ) دحا الأرض بعد خلق السماء ،أي خلق فيها البحار والأنهار والجبال ،وجعلها أقرب إلى شكل البيضة ،فهي منبعجة ومتسعة عند خط الاستواء ،وهي مفرطحة عند القطبيين ،أي غير كاملة الاستدارة .
قال تعالى:{أو لم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ...}( الرعد: 41 ) .
هذا ما ذكره المفسرون القدامى في الجمع بين الآيات المختلفة .
أما المفسرون المحدثون ،والعلماء المعاصرون فيرون الآتي:
1- الكون كلُّه كان كرة ملتهبة غير صالحة لحياة الإنسان عليها .
2- مرت ستة بلايين سنة ،هدأت فيها هذه الكرة ،وانفصلت السماء وارتفعت ،وانفصلت الأرض وانبسطت ورست عليها الجبال والبحار والأنهار .
3- مرَّ خلق الكون بست مراحل ،كانت السماء رخوة هلامية أشبه بالدخان ،ثم تماسكت وهدأت قشرتها وتفتّقت بالمطر ،وهدأت قشرة الأرض وتماسكت ،وتفتقت بالنبات ،ووجد خلق وسيط بين السماء والأرض هو الهواء ،ووجد الحجاب الحاجز بين الأرض والسماء ،الذي يحمي الأرض من ملايين الشهب والنيازك ،ويحفظ الأرض في درجة معينة من الحرارة والرطوبة .
4- تمَّ إعمار الكون وتنسيقه بحيث تكون الأرض مائدة عامرة بالأرزاق والماء والخيرات .
5- تدخلت يد القدرة الإلهية في كل مرحلة من مراحل تكامل الخلق وتوازنه ،ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
( أ ) الإنسان يستنشق الأكسجين ،ويخرج ثاني أكسيد الكربون ،والنبات يستنشق ثاني أكسيد الكربون ويخرج الأكسجين ،ولو وجد النبات وحده لذبل ،ولو وجد الإنسان وحده لاضمحل ومات .
( ب ) نسبة الأكسجين في الهواء 21% ولو زاد عن هذه النسبة لكثرت الحرائق ،بحيث تكون شرارة واحدة في الغابة كافية لإحراق الغابة كلها ،ولو نقصت هذه النسبة في الهواء لاقترب الإنسان من الاختناق ،ولضعف التمدّن الإنساني والاختراع والابتكار .
( ث ) لو اقتربت الشمس منا أكثر مما هي عليه لذاب الجليد في المحيطات ،وغرقت الأرض بمياه البحار ،ولو ابتعدت الشمس عنا أكثر مما هي عليه لتجمَّدت مياه المحيطات ،وتعطلت الملاحة ،واشتد البرد ،وفقدت الحياة توازنها ،كل ذلك يدل على أن وراء الكون يد القدرة الإلهية التي تحفظ توازنه ،وتمسكه من الانهيار والهلاك ،إلى الوقت المعلوم الذي ينتهي فيه عمر هذا الكون ،فتنشقّ السماء ،وتزلزل الأرض ،وتنكدر النجوم ،وتصبح الشمس من النجوم القزمة التي فقدت توهجها ،وينتهي عمر الدنيا وتبدأ مراحل الآخرة .
6- أشار القرآن الكريم إلى أن السماء كانت رتقاء صمَّاء لا تمطر ،وأن الأرض كانت رتقاء صمَّاء لا تنبت النبات ،ففتق الله السماء بالمطر ،وفتق الأرض بالنبات ،وجعل الماء من أسباب الحياة ،وبدونه يكون التصحّر .
قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .( الأنبياء: 30-33 ) .
7- الكون كله مرّ في خلقه بست مراحل ،عبّر عنها بستة أيام ،وفي حوالي شهر أبريل سنة 1994م .انعقد مؤتمر علمي في الولايات المتحدة الأمريكية للبحث في عمر الكون ،وذكر أن عمر الكون 13 بليون سنة ،وأن عمر الإنسان على هذه الأرض 7 بلايين سنة ،وأن الكون مكث 6 بلايين سنة كرة ملتهبة غير صالحة لحياة الإنسان ،ثم وجد الإنسان في هذا الكون من 7 بلايين سنة .
هذا مجرد اجتهاد بشري ،والمجتهد إن أخطأ له أجر واحد هو أجر الاجتهاد ،وإن أصاب فله أجران ،أجر الاجتهاد وأجر موافقة الصواب ،أما كتاب الله تعالى فقد تكفل الله بحفظه ،وهو معجز للبشر ،وإعجازه أنه لم يصطدم بأيّ حقيقة علمية ،بل كأن العلم ينزع إلى تأييد القرآن وإثبات أنه من عند الله .
ونحن نذكر هذه المعلومات بجوار تفسير الآيات للاستئناس بها ،لا لتكون حكما على الآية ،فكتاب الله إمام للبشرية كلها ،والله ولي التوفيق .