{ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون 54} .
إن الهول سيكون فوق ما تدركه عقول من كفروا بذلك اليوم واستهانوا واستهزءوا به ، وأنه لو تحقق لكل نفس ظلمت بالشرك والعناد والاعتداء والشهوات وغير ذلك من الظلم وهو ظلمات يوم القيامة ، لو ثبت أن لها ما في الأرض من معادن وزروع وحدائق وجنات ونعيم ثابت وعارض تملكه وما في الأرض جميعا لافتدت به وقدمته كله فداء ، وهذا بيان لتضاؤل الدنيا بنعيمها وما فيها إلى جانب عذاب الله تعالى ، وأن كل نفس أن تتوقاه في هذه الدنيا .
{ وأسروا الندامة} عندما يرون هول يوم القيامة اعترتهم الندامة وأسروها لا يستطيعون إبداءها من ذهولهم بما راوا ، وقد قال في ذلك الزمخشري قولا حسنا:{ أسروا الندامة} لما رأوا العذاب ؛ لأنهم بهتوا برؤية ما لم يحسبوا ولم يخطر ببالهم ، وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع سوى إسرارهم الندم والحسرة في القلوب ، كما ترى المقدم للصلب فإنه من فظاعة الخطب لا ينبس بكلمة ويبقى جامدا مبهوتا ، وقيل أسر رؤساؤهم وسفلتهم ، أسروا الندامة حياء منهم ومن فعلتهم وخوفا من توبيخهم . وقيل أسروها ، أي أخلصوا إما لأن إخفاءها إخلاصها ، وإما من قولهم أسر بالشيء لخالصه ، وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة".
وإن الآية الكريمة تشمل كل هذه المعاني مع أن أولها المتبادر ، ولكنه كلام الله يحمل المعاني التي ندركها وغيرها ، والله تعالى وحده أعلم .
{ أسروا الندامة} الضمير يعود على كل الظالمين ظلمت نفوسهم وودوا أن يكون في ملكهم الأرض وما فيها ، والضمير بلفظ الجمع يعني الجمع في قوله:{ ولو أن لكل نفس ظلمت} .
وإن الله يقضي بينهم بالقسط ، أي بالحق الذي يوزن فيه بميزان دقيق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وهم لا يظلمون ، أي لا ينقصون شيئا لأنهم يحاكمون أمام الحكم العدل اللطيف الخبير .
إن البعث وما بعده من حساب هو في قدرة الله ؛ لأنه مالك الوجود بما فيه ومن فيه .