يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين 57 قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون 58 قل أرأيتم ما أنزل الله لكل من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ألله أذن لكم أم على الله تفترون 59 وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون 60
النداء للناس جميعا عربا كانوا أم عجما ؛ لأن شريعة الله للناس كافة كما قال سبحانه:{ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا . . .28}( سبأ ) .
ولذا كان النداء بالبعيد لقوله تعالى:{ يا أيها الناس} .
تبين هذه الآية أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم قد اجتمعت فيه عناصر أربعة هي أقسام القرآن الكريم وهدايته:
القسم الأول – الدعوة إلى كل خير والإبعاد عن الشر والزجر ، وضرب الأمثال في القصص القرآني الحكيم ، والتربية النفسية بالعظة والاعتبار ، كما قال تعالى:{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب . . .111}( يوسف ) .
ونسب سبحانه الموعظة إلى نفسه فقال:{ من ربكم} وذكر الرب في هذا المقام إشعار بأنها في التربية الربانية الحكيمة لمن اتعظ واعتبر وأدرك وفقهت نفسه إلى الحقائق ووعاها .
القسم الثاني – أنه مما اشتمل عليه القرآن أنه شفاء لما في الصدور ، كما قال تعالى:{ وشفاء لما في الصدور} فإذا كانت الموعظة تقتضي واجبا إيجابيا هو تربية وتهذيب وإنشاء ، فالشفاء كشف وإزالة لأدران الأمراض النفسية من حسد وحقد وتباغض وتنازع وخوف تبتدئ في الصدور وتنتهي إلى أن تكون أسقاما في المجتمع البشري تفسد بناءه وتقوضه ، وكل هذا داء يحتاج إلى دواء ، وفي القرآن الكريم ذلك الدواء الذي يكون به الشفاء .
القسم الثالث- هو الهداية فقال سبحانه:{ وهدى} أي أن فيه الهداية إلى الطريق المستقيم ، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم فسلكوا الطريق الأقوم وبعدوا عن الشرك والضلال والاعوجاج ، وساروا على هدى من الله استقامت به قلوبهم وألسنتهم وكان منهم المجتمع الكامل القويم لا عوج فيه ولا التواء عن القصد السوي .
القسم الرابع-{ ورحمة للمؤمنين} هو ما في القرآن الكريم من رحمة ، والرحمة هنا هي الشريعة المنظمة لمجتمع المؤمنين الذي يأخذ بها كل ذي حق حقه ، ويرتدع بها الظالم ، ففي شرائعها الإيجابية رحمة بالناس وكل نظمها رحمة وفي شرائعها الناهية رحمة ؛ لأنها تنقية من الفساد ودفع لظلم الآحاد ، وإذا كان الظلم شقاء فدفعه رحمة وسعادة ، وإن العقوبات الزاجرة التي شرعها الكتاب الحكيم رحمة ، وإنه من الرحمة أن يؤخذ المجرمون بجرائمهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من لا يرحم لا يرحم"{[1301]} ودفع الظلم والقصاص رحمة ؛ ولذا قال تعالى:{ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب . . .179}( لبقرة ) .
ودفع اعتداء المعتدين رحمة وذلك من قوله تعالى:{. . .ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . . .251}( البقرة ) .
وإن الموعظة والشفاء والهدى والرحمة للمؤمنين ؛ لأنهم يتعظون بموعظه ويستشفون بشفائه ويهتدون بهدايته وتنالهم رحمته .
قال البيضاوي في مغزى هذه الآية:"قد جاء كتاب جامع للحكمة العملية الكاشفة عن محاسن الأعمال ومقابحها ، المرغبة في المحاسن والزاجرة عن المقابح ، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد وهدي إلى الحق واليقين ورحمة للمؤمنين ، حيث أنزلت عليهم ، نجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان ، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران إلى مصاعد من درجات الجنان".
إن في فضل الله على عباده نزول القرآن الكريم المشتمل على هذا الفضل العظيم الذي يقول فيه سبحانه: