{ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحسبه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون8} .
في قوله تعالى:{ ولئن} اللام موطئة للقسم ، ولئن أخرنا عنهم العذاب الذي نال مثله الذين من قبلهم إلى أمة أي مدة معدودة من السنين المحدودة القليلة ؛ لأن التعبير بمعدودة يومئ إلى أنها قليلة ، كما قال تعالى عن قول اليهود:{ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . . .80} ( البقرة ) فالأمة هنا بمعنى مدة .
وكلمة أمة وردت في فالقرآن بمعان مختلفة ، فتجيء بمعنى المدة كهذه الآية ، وتكون بمعنى الجماعة في قوله تعالى:{ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون . . .23} ( القصص ) ، وتطلق على الرجل المهيب الجامع لمكارم الأخلاق كقوله تعالى:{ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا . . . .120} ( النحل ) .
وتطلق بمعنى الملة كقوله تعالى:{. . . . .إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون 22}( الزخرف ) .
وهذه معان مشتركة في لفظ واحد كإطلاق لفظ"القرء"على الطهر وعلى الحيض ، ومعنى الآية الكريمة أنه إذا أخرالله تعالى العذاب الدنيوي الذي ينالهم بريح عاصف أو رجفة تجعل عالي الأرض سافلها أو بحرب مخزية لهم ترد الحق إلى أصحابه وتقمع الباطل وتزهقه فإنهم يقولون متحدين النبي صلى الله عليه وسلم{ ما يحبسه} ، ما يمنعه ، وكلامهم هذا يتضمن تحديا وإنكارا وتكذيبا مثل الذين سبقوهم إلى الكفر والجحود .
إن سنة الله في الذين خلوا من قبلهم أنه سبحانه يمهل الكافرين ، يدارسهم رسولهم الحق يدعوهم إليه ويؤيدهم بالبرهان ويردده المرة بعد الأخرى حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، كما أخذ قوم نوح وعاد وثمود وآل مدين وآل فرعون ، وإذا كانت الدعوة خالدة كدعوة محمد صلى الله عليه وسلم غالبهم الحق وغالبهم ، فقد صابرهم صلى الله عليه وسلم حتى هاجر وكان الجهاد والمغالبة حتى وضع الله الباطل وأزهقه إنه كان زهوقا .
ولذلك لما جاء لم يكن مصروفا بل كان لونا آخر ليس من نوع ما نزل بمن سبقوهم .
إنهم تحدوا الله منكرين مستنكرين يقولون:{ ما يحبسه} فالاستفهام للاستنكار والإنكار والاستهزاء بما هددهم به القرآن ، وإنهم إذا تحدوا محمدا ذلك التحدي السافر المستهزئ فإن الله تعالى يقول:{ ألا يوم يأتيهم} ألا للتنبيه الزاجر الموقظ لغفلتهم التي كانت من فرط الاغترار بقوتهم الظاهرة .
{ ليس مصروفا عنهم} أي ساعة أن يجيئهم لا يصرفه عنهم رجاء أو شفاعة شافعين ، وإنهم إذ يندمون فقد فات وقت الندم ، كذلك كان الأمر في ماضي الأمم مع الكافرين ، وإن ما قدره الله لكم معشر كفار قريش إذا جاء العذاب على أيدي المجاهدين بأمر من الله تعالى لن يرفع عنكم حتى تستسلموا خاضعين ، وحتى يتمكن الإيمان من الكفر والكافرين .
{ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} ( حاق ) معناها أحاط وهي تتضمن معنى لإنزال الجزاء . جاء في تفسير معنى ( حاق ) في مفردات الراغب الأصفهاني:قوله تعالى:{ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} وقال عز وجل:{. . . .ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله . . .43} ( فاطر ) ، أي لا ينزل ولا يصيب ، وأصله "حق".
وخلاصة المعنى على هذا ، أنه أحاط بهم ونزل الأمر الذي كانوا به يستهزئون ، وهو حق عليهم استحقوه بأعمالهم واستهزائهم فكان جزاء وفاقا لما فعلوا من قبل ، وقوله تعالى:{ ما كانوا به يستهزئون} يفيد أن استهزائهم كان دائما ومستمرا ، ولذا عبر بالماضي الدال على وقوعه في ماضيهم واستمراره في حاضرهم ومستقبلهم حتى نزل بهم ما تعجلوه .
الصبر خلق الإيمان
قال تعالى: