وقد بين سبحانه وتعالى صفات الكافرين الذين له الويل من عذاب شديد ، لا يكتنه كنهه ، ذكر سبحانه أوصافهم الظاهرة ، فقال تعالى:
{ الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد ( 3 )} .
وصفهم سبحانه وتعالى في هذه الآية بثلاث صفات ، وختمها بجزائهم المستحق من هذه الصفات والمترتب عليها:
الصفة الأولى:أنهم{ يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} ، ( استحب ) السين والتاء للطلب ، فمعنى استحب الحياة ، أي طلب حب الحياة الدنيا ، وهذا يستفاد منه أولا الرغبة الشديدة في الحياة بمعنى اللجاجة في طلبها ، ويستفاد منه ثانيا أنه يختار على الحياة الدنيا ، ويترك الآخرة تركا ، كم يترك كل مهجور ، ولقد قال في ذلك الزمخشري:"هم الذين يستحبون ، والاستحباب:الإيثار والاختيار ، وهو استفعال من المحبة ؛ لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب منه نفسه أن يكون أحب إليه وأفضل عنده من الآخرة".
والصفة الثانية:أنهم لا يكتفون بإيثارهم الدنيا على الآخرة ، بل يصدون عن سبيل الله ، أي يقفون مترصدين السبيل يصدون عنها بمنع الناس منها ، وقرأ الحسن البصري{ ويصدون} بضم الياء وكسر الصاد ، والمعنى أنهم أعرضوا عن سبيل الله ، وحملوا غيرهم على الإعراض عن سبيل الله تعالى ، وذلك بالجمع بين القراءتين ، وصدهم عن سبيل الله بالدعوة إلى عدم الدخول ، كما كان يذهب أبو لهب إلى حيث النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبائل يكذب النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوهم إلى الإعراض أو عدم الاستماع ، وأشد الصد عن سبيل الله إيذاء المتبعين لسبيل الله وتعذيبهم ليحملوهم على الردة عن دينهم ، وسبيل الله هو صراط العزيز الحميد ، وهو طريق الحق والهداية وتوحيد الله تعالى .
والصفة الثالثة:أنهم يبغونها عوجا ، أي يطلبونها راغبين ملحفين أن تكون معوجة غير مستقيمة ، بل يطلبونها ناكبة عن الطريق غير سالكة سواء السبيل ، يبغونها زيفا ويطلبون الاعوجاج كما كانوا يريدون محمدا صلى الله عليه وسلم أن يكون عن سب آلهتهم ويدعونه إلى اتباع آبائهم ، وكأنه جاء ليردد ما عندهم ، لا ليهديهم ويرشدهم إلى الطريق الأقوم .
ولقد بين سبحانه بعد ذلك الوصف الجامع لهم ، ولذى سيطر عليهم فقال:{ أولئك في ضلال بعيد} الإشارة إليهم محملين بهذه الأوصاف التي استحبوا بها الحياة الدنيا وصارت خلب أكبادهم وآثروها على الحياة الآخرة ، ورضوا بالدنية عن الحياة العزيزة الكريمة في الآخرة ، وصدوا عن سبيل الله وبغوا الحق معوجا غير مستقيم{ أولئك في ضلال بعيد} .
الضلال ضد الهداية ، وضلال الطريق أن يسير في متاهة يتيه فيها ، وكلما أوغل في المتاهة ازداد ضلالة وبعد عن الغاية والنجاة من المتاهة ، فهؤلاء بحبهم للدنيا دون الآخرة ، وصدهم عن سبيل الله وإرادتهم الزيغ دون الحق أمنعوا في متاهة الباطل ، فبعدوا بضلالهم ، وغابوا عن الحق وسواء السبيل .
والبعد إما أن يكون وصفا للضلال ، ويكون معنى ذلك أنهم أوغلوا في ضلال إيغالا حتى بعدوا عن الطريق السوي الموصل إلى الغاية المنشودة والذي هو طريق السلامة .
وإما أن نقول إنه وصف للضال نفسه ، وذكر السياق وصفا للضلال من قبيل المجاز المرسل الذي يجعل المصدر هو الموصوف ، والحقيقة أن الوصف هو الضال ، والله أعلم .