ولقد بين القرآن الكريم حقيقة ثابتة في الرسالات الإلهية ، وهي أن يكون الرسول بلسان قومه ، فقال تعالى:{ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ( 4 )} .
{ من} هنا لاستغراق النفي ثم الإثبات ، أي ما أرسلنا أي رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ، وهذا النص الكريم يفيد أنه سبحانه لا يرسل رسولا إلا بلسان قومه الذين بعث من بينهم ، وأن البيان الأول يكون لهم ثم ينبعث نور الدعوة من ورائهم ، وكذلك كان النبيون ، فعيسى عليه السلام بعث بلسان قومه وكانت دعوته بلسان قومه وهو العبرية ، وعمت دعوته ابتداء بلسان قومه ، والأناجيل التي حكت مواعظه في الجبل والسفح كانت بلغة قومه ابتداء ، فإذا كانت قد ظهرت بغير لغته ولغة قومه ، بل بلغة أعدائهم فإن السند يكون حينئذ منقطعا بين الرسالة ومن أرسل فيهم ، بل بينهم ، وبين الرسول ذاته ، ولذا كان تحريف القول عن موضعه .
وموسى من قبل عيسى – عليهما السلام – بعث أيضا بلغة قومه وهم بنو إسرائيل ابتداء ، ثم كانت لغة فرعون عندما خاطبه هو هارون .
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، قد بعث بلغة قومه الذين كانت دعوته الأولى بينهم وانبعث نورها منهم ولكنها كانت عامة ، كما قال تعالى عن نبيه:{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا . . .( 158 )} [ الأعراف] ، وكما قال تعالى:{ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا . . .( 28 )} [ سبأ] ، وكما قال صلى الله عليه وسلم:"بعثت للأحمر والأسود"{[1364]} .
وكونه بلسان قومه لا يفيد أنه كان للعرب خاصة ، فذلك لما قصته الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الشريفة والوقائع التاريخية الصادقة ، فإن دعوته دخل فيها صهيب الرومي ، وبلال الحبشي ، ثم سلمان الفارسي ، وذكر صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء يصورون أجناسهم في الدعوة المحمدية ، ولم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عمت دعوته الجزيرة العربية أن بعث إلى هرقل ملك الروم ، وإلى كسرى ملك الفرس ، وإلى المقوقس عظيم القبط ، يعوهم إلى الإسلام ، وهكذا .
إذن فالدعوة كانت للناس قابطة ، ولكنها ككل دعوة حق تبتدئ في أضيق دائرة ، ثم تتسع شيئا فشيئا حتى تصير نورا ساطعا يعم الأكوان ، فابتدأت الدعوة في أسرة الرسول وأصدقائه ثم دعيت عشيرته ، كما قال تعالى:{ وأنذر عشيرتك الأقربين ( 214 )} [ الشعراء] ، ثم كان الصدع بالدعوة والجهر بها{ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( 94 )} [ الحجر] ، ثم كانت في القبائل العربية ، ثم تجاوزت ربوع الصحراء العربية إلى أرض كسرى وقيصر وسارت إلى الحبشة بعد أن عمت ربوع اليمن .
وقوله تعالى في مقابل إرسال الرسول عن قومه:{ ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} .
ذكر سبحانه أن البيان الأول فيكون لقومه ، ثم يكون بعد ذلك لغرهم .
والآن ونحن نرى الاختلاط الفكري بين البشرية ، حتى إن الأمر ليقع في أرض فيذيع خبره ، بعد أقل من ساعة في كل أنحاء الأرض ، لا نعجب في أن يكون بعث الرسول بلغة ويعم علمه بعد ساعة من نهار أو ليل كل بقاع الأرض ، ولكن العجب في أن يكون في الماضي البعث بلغة والدعوة عامة ، هذا ما أثاره وبينه الزمخشري ، وهذا ما قاله سننقله بطوله:
"فإن قلت لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس كافة{ قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا . . . ( 158 )} [ الأعراف] ، بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة ، فإن لم يكن للعرب حج فليغيرهم حجة ، وإن لم تكن لغيرهم حجة ، فلو نزل بالعجمية لم يكن للعرب حجة أيضا ، قلت:لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة لنزوله بجميع الألسنة ؛ لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل ، فبقي أن ينزل بلسان واحد ، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ؛ لأنهم أقرب إليه ، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما نرى الحال ونشاهد من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك جلائل الفوائد وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكذا القرائح فيه من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ؛ ولأنه أبعد من التحريف ، وأسلم من التنازع والاختلاف . . ."{[1365]} .
وننتهي من كلام الزمخشري إلى أمرين:أولهما:أن نزول القرآن والدعوة المحمدية كانت باللغة العربية ؛ لأنها كانت لغة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت أقرب إليه ؛ ولأن القرآن المعجز إذا كان باللغة عانى غيرهم من حفظ لفظه وتفهم معانيه ، وفي ذلك ثواب أولا ، وصون للقرآن عن التغيير والتبديل فيه ثانيا .
ويشير إلى أنه لو نزل بكل اللغات ، وكان معجزا فيها جميعا لكان الإيمان بالإلجاء لا بالاختيار وله في ذلك نظر .
وإنه يجب أن نلاحظ أمرين:
أولهما:ما قاله الشافعي رضي الله عنه أنه يجب أن يعرف كل مسلم قدرا من اللغة العربية يصحح به دينه .
وثانيهما:أن جعل القرآن باللغة العربية ، ومحاولة الأعاجم أن يحفظوه يقرب بين اللغات ، وحيث قربت اللغات قربت العلاقات الإنسانية .
وكان ذلك قائما يوم كانت الوحدة العربية قائمة ، وكانت اللغة العربية جامعة لهم وفيها دونت ثقافاتهم وكانت وعاء للعلم الإسلامي ، فلما انبعثت اللغات الإقليمية من مراقدها ذهبت الوحدة وتفرقت الكلمة .
ونعود إلى الكلام في معنى الآية الكريمة{ ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} ، أي أنه يترتب على البيان أن يسير بعض الناس في طريق الضلالة ، إذ يكذبون ، ولا يصدقون ، ويهدي الله تعالى من يسير في طريق الهداية ، فيأخذ بيده إلى غايتها .
وهنا يسأل سائل لماذا قدمت الضلالة على الهداية ؟ ونقول في الجواب عن ذلك إن الآيات سبقت لبيان إنذار الضالين ، فهم موضع الإنذار ؛ ولأن الشيطان قريب من نفوس البشر ؛ ولأن هؤلاء تجعل حكم الضلال هو الأغلب .
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:{ وهو العزيز الحكيم} لبيان أن الكفار مهما يكن سلطانهم وقوتهم وحسبانهم أنهم لن يغلبوا ، ويذهب بهم غرورهم إلى زعم أنهم العالون ، فالله تعالى هو واهب العزة ، وهو العزيز الذي يذلهم ، ويجعل لأهل الإيمان الكلمة العليا ، وهو الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته ، وبعلمه الذي وسع كل شيء ، فهو يمهل الكافرين ويملى لهم ، كما قال عز من قائل:{ وأملي لهم إن كيدي متين ( 45 )} [ القلم] يملى لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .